أميركا.. "تحكيم البيسبول" قبل المفاوضات

أميركا.. "تحكيم البيسبول" قبل المفاوضات

26 ابريل 2019
+ الخط -
معروفٌ أن الإدارة الأميركية تنظر إلى عالم المال مصدر إلهام لحل مشكلات العالم، فالرئيس ترامب الذي صنع ثروته من العقارات يعتقد، مثلاً، أنه يمكن حل ما يعتبرها مشكلة اللاجئين في الولايات المتحدة ببناء سور على مدى الحدود الجنوبية (وليس الشمالية). وبالطريقة نفسها يعتقد فريقه، المؤلف أساسا من محامين متخصصين في قضايا الإفلاس والعقارات، أنه يمكن حل القضية الفلسطينية بالمال، وغالبا مال جهات غير أميركية. وإذ يعرف هذا الفريق أن عديدين حاولوا حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وفشلوا، فإن جاريد كوشنر وفريقه يرون استخدام أسلوب جديد مستلهم من عالم البزنس الأميركي، وهو أسلوب تحكيم رواتب لاعبي البيسبول. وهو "نوع من التحكيم، يقدم خلاله كل فريق تصورا ماليا إلى محكّم. وبعد الجلسة الأخيرة، يختار المحكّم أحد العروض المقترحة بدون أي تعديل". وقد اتضح، في تغريدةٍ لرئيس فريق المفاوضات الأميركي جيسون غرينبلات، أن هذه الفكرة راودتهم، ثم في نهاية المطاف تم رفضها، إذ يقول في التغريدة، يوم 20 إبريل/ نيسان الحالي، إن أسلوب "تحكيم البيسبول" لن ينفع في هذا الوضع، مؤكّدا أنه "لا توجد أي طريقة لتجنب مفاوضات مباشرة بين الفرقاء، للوصول إلى حل شامل، أي شخص يعتقد غير ذلك مخطئ".
ولكن على أي أساس سيتم التفاوض المباشر؟ هل على أساس الشرعية الدولية، والتي تشمل مبدأ "عدم القبول بالاستيلاء على أراض بواسطة الحرب"، والذي جاء في ديباجة قرار مجلس الأمن 242، أو مبدأ مقايضة "الأرض بالسلام"، كما في رؤية الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، أم سيتم حصر مرجعية المفاوضات المباشرة بما ستشمله صفقة القرن، والتي رشح منها ما قاله الرئيس ترامب إن القدس خارج طاولة المفاوضات؟
لا عيب في فكرة الطلب من متنازعين في أي خلاف تقديم تنازلاتٍ معقولة، ففي المفاوضات لا يستطيع أي طرفٍ تنفيذ كل رغباته. ولذلك من المقبول أن يفكر أطراف أي نزاعٍ بما هو الحل الوسطي الذي يمكن أن يقبلوه. وفي هذه الحالة، تقديم الأطراف تنازلات معقولة أفضل من فرض حلول عليهم. وفي حالة الصراع الشرق أوسطي، لا بد من حلول خلاقة. وفي هذه الحالة، إن فرض أسلوب "تحكيم البيسبول"، أو غيره من آليات التحكيم، بدون الموافقة التامة من الطرفين، وبدون وجود محكّم محايد، تصبح الفكرة معرّضة للفشل. وإذا كان الهدف هو الوصول إلى حل وسط، فإن المطلب الأساسي هو موافقة الأطراف على آلية العمل، ثم توفر محكّم محايد.
معروفٌ أن القيادة الفلسطينية التقت مراتٍ مع إدارة ترامب في بداية هذه الإدارة، إلا أن 
الاتصال بينهما توقف منذ الإعلان عن نقل السفارة الأميركية إلى القدس. وقد أكد غرينبلات، في تغريدةٍ أخيرا، عدم وجود أي اتصالٍ مع القيادة الفلسطينية. ومما يمكن استنتاجه إذاً أنه لا يوجد اتفاق فلسطيني على فكرة "تحكيم البيسبول"، أو على لعب الجانب الأميركي دور المحكّم. ولعل تركيز القيادات الفلسطينية، بعد الإعلان عن نقل السفارة، على أن الولايات المتحدة فقدت أهليتها لتلعب دور الوسيط خير دليل على ذلك. ومنذ نقل السفارة، أوقفت أميركا مساعداتها لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وسحبت مساعداتها لمستشفيات القدس، وأغلقت مكتب المفوضية الفلسطينية في واشنطن، وأجرت تعديلات على قوانين أدت إلى وقف كامل لكل المساعدات الأميركية بسبب رفض الجانب الفلسطيني تلقي مساعدات، بما فيها لجهاز الأمن الفلسطيني.
قد يكون أسلوب "تحكيم البيسبول" ناجعا لحل خلافات مالية بين لاعبين ومالكين أميركيين، ومن خلال محكّم محايد، إلا أنه لن ينجح بشأن أرض وشعوب وصراع دامٍ طويل. لا بد أن تكون هناك حلول خلاقة وشجاعة من كل الأطراف، للخروج من المأزق الموجود، ولكن ذلك لن يحدث، ما دام هناك غياب بيئةٍ تشجع التنازلات المتبادلة، وعلى أساس "لا يتم حل أي أمر قبل ان يتم حل كل الأمور"، ففكرة أن يقبل طرفٌ تنازلات الطرف الآخر، معتبرا ذلك مكسبا ومدخلا لبداية المفاوضات، يعني أن ذلك الأسلوب لحل النزاع فاشل.
والصراع الفلسطيني الإسرائيلي لا يمكن حله مالياً، أو من خلال أساليب وآليات تنجح في مشاريع البزنس الأميركي، مثل تحكيم البيسبول، فحتى في هذه اللعبة، أو في أي مباراة رياضية، أهم عناصر النجاح في وجود أسس معروفة للعبة، يتم تطبيقها بحكّام محايدين. ولكن مباراة بدون أسس، في وقتٍ ينحاز الحكام لأحد الفرق، ستفشل.
تنجح الرياضة عندما يعلم الجميع بأسس اللعبة، ويثق اللاعبون والجمهور بحيادية الحكام في تطبيق قرارات عادلة ومنصفة. أما حالنا مع أميركا، فإن قواعد اللعبة مخفية وسرية، والثقة غائبة. ولذلك لن يشارك الفريقان في لعبةٍ معروفةٌ نتيجتها مسبقا، بسبب تمييز الحكام وغياب أسس اللعب.