أساس

أساس

20 يونيو 2015
محمد مهر الدين / العراق
+ الخط -
تراقبُ الرجلَ الذي يأتي ويتحدث إلى المباني. إنه يدور حول المنازل ناظراً من الأرصفة إلى الأعلى، من الحدائق المفروشة بالإسمنت، ناظراً إلى الأسفل، إلى الدعائم الغائصة في الأرض. يدخل كل الغرف، ينقر على النوافذ ويهزهز الألواحَ الزجاجية الناشزة، ينخس الجص، يغير اتجاه العليات. وفي السراديب يصغي إلى الدعائم، ويهمس طيلة الوقت.

يقول، المباني تردّ هامسة. إنه يتعامل مع الحجارة السمراء في المباني السكنية، في البنوك والمخازن في أرجاء المدينة. تخبره أين تمتد خطوط صدوعها. وحين ينتهي من عمله، يقول لك لماذا ينتشر الشرخ، لماذا الجدار رطب، أين التآكل، كم يكلف إصلاحه أو تركه يبلى. إنه لا يخطئ أبداً.

هل هو مسّاح أراضي؟ مهندس بناء؟ ليس لديه شهادات مؤطرة، ولكن لديه ملف وثائق بالمراجع سميك، شهرة عشر سنوات. في كل أرجاء أميركا هناك قصاصات جرائد عنه. إنهم يدعونه الهامس بين المنازل. هو ظاهرة نادرة طيلة سنوات.

حين يتحدث يبتسم ابتسامة عريضة وثابتة. عليه أن يدفع بكلماته إلى أبعد من ابتسامته كي تخرج محكمة وشائهة. إنه يجهد أن لا يرفع صوته فوق الأصوات التي يعرف أنك لا تستطيع سماعها.
يقول "نعم لا مشكلة، ولكن دعائم ذلك الجدار تتذرر".

إن راقبته عن قرب، سترى أنه يختلس النظر إلى الأرض متعجلاً، مرة بعد مرة، إلى أساس المبنى الغائص. وحين يهبط إلى الأسفل، إلى السرداب، يكون عصبي المزاج. يتحدث بالمزيد من العجلة، المبنى يتحدث إليه هناك في الأسفل بأعلى صوته، وحين يصعد مرة أخرى يكون متعرّقاً تحت ابتسامته.

حين يقود سيارته ينظر إلى كلا جانبي الطريق. أخذاً بنظرته كل الأساسات. مصدوماً صدمة مروعة لا تتوقف. يحدّق، عابراً بمواقع المباني، في ناقلات التراب. يراقب حركة عجلاتها الدائرة كما لو أنها نوع من آكلي اللحوم.

في كل ليلة يحلمُ أنه موجود حيث الهواء يخثّر رئتيه والسماءُ ملاطٌ رقيق سامّ من غيوم سوداء وحمراء/سوداء يقيئها التراب، والأرضُ خُبزت حتى تحولتْ إلى ذرور، وصبية ذاهلون جلدهم كتل مسلوخة، لا يرونه أو يرى أحدهم الآخر، رغم أنهم يمرون بالقرب منه مولولين من دون كلمات أو بلغة رطانة ضعيفة، أوائل كلمات ومختزلات من التي كانت تعني شيئاً ما ذات يوم، وهي اليوم قباع خنازير.

إنه يعيش في منزل صغير على أطراف المدينة، حيث بدأ ذات مرة ببناء غرفة إضافية إلى أن صرخت الأساسات بأعلى ما فيها. وبعد عقد من الزمن لم يعد هناك سوى ثقب يتخلل ثلما في التراب، أنابيب عتيقة، حفرة، تنتظر جدراناً. هو لن يملأها. توقف عن الحفر حين انبثق سائلٌ أسود ثخين ملوث من أسفل قطعة أرضه في الضواحي، وتعلق بمسحاته، وغمرها، لا يراه أحد إلا هو. عندئذ تحدث إليه الأساس.

في حلمه يسمع الأساس يتحدث إليه، بصوته المتعدد، بغمغماته، وحين شاهده أخيراً، الأساس في الأرض الساخنة المتراصة والضيقة، استيقظ متقيئاً واستغرق الأمرُ ثوان قبل أن يعرف أنه في فراشه، في بيته، وأن الأساس ما زال يتكلم.
- نحن دعامة
- نحن جياع.

في كل صباح يقبّل صورة عائلته قبلة الوداع. لقد غادرتْ منذ سنوات مضت خائفة منه. إنه يجمّد وجهه حين يقصّ عليه الأساس أسراراً.

في مجمع شقق سكنية وسط المدينة يريد النزلاء معرفة أمر الشرخ عبر أرضيتين من أرضيات شققهم. يقيسه الرجلُ ويلصق أذنه بالجدار. يسمع أصواتاً آتية من تحت، سارية، صاعدة، عبر عظام المبنى. وحين لا يعود قادراً على صدها يهبط إلى السرداب.

الجدران كئيبة ملطخة بالرطوبة، يلونها رسم جداري باهت. الأساس يتحدث إليه بجلاء. يخبره إنه جائع وخاو. صوته صوت أصواتٍ عديدة مذرذرة في تلك اللحظة.

إنه يرى الأساس. يرى خلال الأرضية الإسمنتية والتراب حيث العوارض الخشبية مطمورة ويعبر بنظره إلى الأساس. مخزون من رجال موتى. أساس المبنى، بنية من أجسادٍ متشابكة مع أطرافها، مشدودة بإحكام، ومحزومة سوية تشكل معماراً، عظامهم محطمة لجعلهم ملائمين، منحشرين في حالة اضطجاع ملتوية، جلودٌ محترقة وأسمالُ ثيابهم مضغوطة كما لو على زجاج حتى حدود القطع، على امتداد أسافل جدران المبنى على عمق ستة أقدام تحت الأرض، جدولٌ تام ممتلئ بكائنات بشرية مصبوبة مثل الإسمنت تقوّي الدعائم والجدران.

ينظر إليه الأساسُ بكل عيونه، والرجال يتكلمون في تلك اللحظة.
- نحن لا نستطيع التنفس.
لا رعب في أصواتهم، لاشيء سوى صبر الموتى اليائس.
- نحن لا نستطيع التنفس، ونحن نسندكم ولا نأكل سوى الرمل.

يهمس لهم بحيث لا يستطيع أحد سماعه.
يقول "اسمعوا". ينظرون إليه خلال التراب. يقول "أخبروني بأمر الجدار، إنه مبني فوقكم. إنه يثقل عليكم. قولوا لي كيف يشعر"
- إنه ثقيل، يقولون، ونحن لا نأكل سوى الرمل، ولكن الرجل في النهاية ينتزع الموتى من تركيزهم اليائس على ذواتهم بلطف، لبضع ثوان، فيرفعون أبصارهم ثم يغمضون عيونهم، كلهم في اللحظة نفسها، ويهمهمون، ويخبرونه، إنه قديم، هذا الجدار أقيم فوقنا، وهناك تآكلٌ في المنتصف فوق جانبيه، وهناك شرخ سوف يتمدد، ويستقر الجانبان.

يخبره الأساسُ بكل شيء عن الجدار وللحظةٍ تتسع عينا الرجل، ولكنه يفهم عندئذ أنه لا يوجد خطر.

هذا الجدار، من دون معالجة، سينخفض فقط، ويجعل المنزل أشد قبحاّ. لن ينهار شيء. ولدى سماعه هذا يقف ويسترخي ويعود أدراجه مبتعداً عن الأساس الذي يراقبه وهو ينصرف.
"ليس عليكم أن تقلقوا بشأنه" يخبر لجنة النزلاء" ربما عليكم مجرد إصلاحه وتمليسه، هذا ما عليكم أن تفعلوا".


في مركز تجاري من مراكز الضاحية، لا يوجد شيء يوقف توسّعه إلى أرض خربة، وفي المنزل الحسن السمعة لم يعد إصلاح السلالم ممكناً، وتم بناء برج الساعة باستخدام قطع خشبية دون المعيار المطلوب، وسقف الشقة يحتاج إلى مانع للرطوبة.

كل هذه الأشياء يقصها عليه جدارُ الموتى المطمور. كل المنازل بنيت فوقهم. كله أساسٌ واحد، هذا الذي يدعم مدينته. كل جدار يهمس له بالصوت نفسه، بالوجوه نفسها، ثيابٌ مشقوقة، ودمٌ جف منذ زمن طويل وأجسادٌ ممزقة وعناصرها مستخدمة لملء الفجوات بين الأجساد، أعضاء ورؤوسٌ مرتبة بدقة بين رجال نفخهم الغاز والغبار يتساقط من تجاويفهم، الموتى متسلسلون كلياً وجزيئاً.

كل منزل في كل شارع. إنه يصغي إلى المباني، إلى الأساس الذي يوحدها.

يتجول في حلمه عبر أرض تبتلع قدميه. رجالٌ مفقودون يسحبون أقدامهم في دوائر قلقة لانهاية لها ويعبر ماراً بهم. سائلٌ شديد الحلاوة كثيف من تحت التراب مباشرة يلعقه. يسمع الأساسَ. يستدير فيجد الأساس ماثلاً. إنه أطول. لقد اخترق الأرضَ. جدارٌ من قرميد رجال موتى بعلو فخذيه، حوافه وقمته بالغة النعومة. مطمورٌ بآلاف العيون والأفواه التي تنظر وتتحدث، مسقطة دموعاً وجلداً ورملاً.
- نحن لا نموت، نحن جياعٌ و ساخنون ووحيدون.
شيء ما بني فوق الأساس.

كانت هناك سنواتٌ من المعمار التافه، المخططاتُ الصغيرة للمعماريين، لهفة الناس لتحسين منازلهم. وبعناد جعل الأساسَ يخبره. حيث لا مشكلة أمات الأمر، أو حيث يكون هناك اهتمامٌ ضئيل. وحيث المشاكل بالغة الضخامة بحيث يُعدم المبنى مبكرأ، يقول ذلك أيضاً.

طيلة عقد تقريباً وهو يصغي إلى المباني. مرّ وقت ٌ طويل، إلى أن وجد ما كان يبحث عنه.

المجمع يعلو بضع طبقات، قبل ثلاثين سنة بناهُ من إسمنتٍ رديء وحديد رخيص مقاولون وسياسيون أصبحوا أغنياء بفضل النواقص. أحفورات مثل هذا الفساد في كل مكان. إنهياره كان تدريجياً على الأغلب، الأبواب تلصب، المصاعد تتهاوى، تترسب مع مرور السنوات. وبإصغائه إلى الأساس يعرف الرجلُ أن هنا شيئاً ما مختلفاً.

تصاعد حذره، تنفسه قصير، يغمغمُ لجدار الموتى المطمور، متوسلا أن يتأكدوا.
يقع الأساسُ في أرض سبخة، الرجالُ الموتى يمكنهم الشعور بالرواسب الطينية وهي ترتفع. جدران السرداب تتفتت. الماء يخترق عروق الدعائم حتى أصغر عرق فيها. لن تصمد طويلاً. سيسقط المبنى.

ويهمسُ مرة أخرى "هل أنتم واثقون؟". وينظر الأساسُ إليه بالغبار الكثيف كثافة لا تحصى، والعيون المحمرة ويقول نعم. يقف مرتجفاً ويلتفت إلى الوكيل، مدير الإسكان.
"هذه الأشياء العتيقة" يقول "ليست بارعة ولم تكن مبنية جيداً، و.. نعم ستصاب بالرطوبة، ولكن ليس لديك ما تقلق بشأنه. لا مشكلة. هذه الجدران صلبة".

يلطم العمود بجواره ويشعر بالإهتزازات تسري إلى الماء في الأسفل، عبر قاعدته المتآكلة المخرمة، وصولاً إلى الأساس حيث يتذمر الرجال الموتى.
في الكابوس يركع أمام جدار اللحم الممزق. إنه الآن أعلى الصدر. الأساس آخذٌ في النمو. هو لا شيء من دون جدار، معبد.

يصحو باكياً ويتعثر في داخل سردابه. يهمسُ الأساس له، هو فوق الأرض الآن، إنه يمتد في جدرانه.

يصحو الرجلُ لينتظر. الأساسُ ينمو. بطيء، إلا إنه ينمو. ينمو صاعداً في الجدران وتحت، أيضاً، يمتد إلى التراب، موسعاً قاعدته، داعماً أكثر فأكثر.

بعد ثلاثة أشهر من زيارته للمبنى المتعدد الطبقات يراه في الأخبار المحلية. يبدو مثل شخص عانى من سكتة دماغية، جانبه رخو مرتعش. زاويته الجنوبية ترهلت وانطوت على نفسها مثل شطيرة مفتوحة لنصف غرف مهجورة تتمايل على حافة الفراغ. رجالٌ ونساءٌ ينقلون إلى الخارج على نقالات.

شخوص ترتعش على شاشة. الكثيرون ميتون. ستة منهم من الأطفال. يرفع الرجل جهارة الصوت ليتخلص من همسات الأساس. يبدأ بالبكاء ثم بالنحيب. يحتضن نفسه متألماً، يئن حزيناً، يمسك وجهه بين كفيه. يقول "هذا ما أردتهُ، سدّدتُ لك ما عليّ. من فضلك دعني وحيداً. انتهى الأمر".

في السرداب يتمددُ على الأرض وينتحب فوق التراب، وتحته الأساس. يتطلع إليه بأوضاعه العشوائية الشاذة. عيونه الميتة تطرف ناثرة الغبار وتراقب. يغيظه تحديقه.
يهمس "هناك شيء لكَ لتأكله. الرحمة يا إلهي. انتهى الأمر. انتهى. دعني وحيداً. لديك شيء تأكله. سدّدتُ لك ما عليّ. أعطيتكَ شيئاً ما".

في الحلم الضبابي يواصل المشي ويسمع النداءات المشوشة لرفاق ضائعين ومتوحدين. يمتد الأساس عبر الكثبان المسطحة. يهمس بصوته المخنوق مثلما كان الأمر منذ اليوم الأول.
هو ساعد على بناء الأساس. طريق طويل بعيداً. بين بلدين أجنبيين حين كانت الحدود في حالة فوضى. هو خرج سالماً. الكتيبة الأولى مشاة مؤللة. في الأيام الأخيرة من فبراير، قبل عشر سنوات. رجال المقاومة المجندون اختبؤوا في خنادق في الصحراء، أدواتهم تطل عبر الشرك، يسبرون ويطلقون النار.

جاء الرجلُ ولواؤه. أخمدوا العناصر الأساسية بقسوة، خالطين الإسمنت بنصف ساعة من الضرب، مدافع هاوزر وصواريخ مازجة حبوب الرمل وكل شيء آخر مكدس ينتظر في بواليع رجال غائرة مثل مدقات وهاونات، محولة كل شيء عجناً إلى عنصر أساس أحمر ثخين وجيد.

جاءت الدبابات بحركتها الشبيهة بحركة دمى، تدور ماسورات مدافعها على محورها ولكن صامتة. لقد قامت بعملها بوسائل أخرى. والجرافات تعتلي مقدماتها، اقتفت الأثر على امتداد الخطوط المحفورة في التراب.

وبكفاءة رتيبة جرفت الرمل الساخن إلى الخنادق، صبته على من فيها، على المهاد ومزَقِ الضباب والرجال الذين فرّوا وحاولوا إطلاق النار أو الاستسلام أو الصراخ إلى أن تدفق غبار الصحراء وغطاهم وقام بعمله، احتواهم في بؤرته بحيث اختنقت أصواتهم وأصابهم السعار، ثم حل السكون والركود طارحاً الآلاف حزماً سوية مع أصدقائهم وشظايا أصدقائهم، في ثقوبهم وفي أميالٍ من خطوط المخابئ.

وراء الدبابات وقاطراتها الملحقة بها، تخطت عربات برادلي إم2 خطوط الرمل المكوم حديثاً حيث أظهرت النتوءات عدم الانتهاء من البناء، أذرع وسيقان الرجال تحتها، بعضها ما زال يختلج مثل اختلاج الحشرات.

ورشت عربات برادلي موقع المبنى ببنادقها الرشاشة للتأكد من الإطاحة بكل المواد على القمة، وإخماد أي شيء قد يخرج منه.

ثم جاء الرجل من الخلف مع مدرعات القتال ناقلة التراب، تغالب النعاس مع آخر الأسلحة الخفيفة ورصاصها يئز على جلودها. لقد أتم العمل. بمجرفته أزاح كلّ شيء جانباً. كلّ فتات الصخور القذر المتخلف عن البناء، العصيّ وقطع الخشب، البنادق، عوائق الرمل، مثل العصيّ، الأذرع والسيقان مثل العصيّ، الرؤوس ملغّمةُ الرمل التي انقلبت ببطء مع حركة الأرض والآن نتأت. سوّى كل البروزات بالأرض، أخفاها في التراب، وطمرها بالمزيد من التراب لتختفي تماماً.

في الخامس والعشرين من فبراير/ شباط، العام 1991، ساعد على بناء الأساس. وسمع، وهو يتطلع عبر الفضاء، والمساحات المسطحة، والصحراء التي أصبحت أنيقة، وقد نُظفت من تلك الجسيمات من أجل تلك الساعات، أصواتاً مفزعة. رأى الموتى فجأة وعلى نحو رهيب خلال الرمل الساخن الأحمر الجامد، في خنادقهم المنظمة، تلك التي تقوم مثل جدران، وتتقاطع وتمتد أميالا، مثل مخططاتٍ، ليست مخططات منزل أو قصر، بل مدينة. رأى الرجال وقد تحولوا إلى ملاطٍ، رآهم ينظرون إليه.

الأساس يمتد تحت كل شيء. إنه يحدثه. لن يكون صامتاً. في حلمه أو خارجه.

اعتقدَ أنه سيتركه وراءه في الصحراء، في تلك المنطقة المسطحة غير الطبيعية. اعتقد أن الهمس قد يتبدد عبر آلاف الأميال.
عاد إلى الوطن. وعندئذ بدأ حلمه. أعرافُه، النيرانُ الطيّبة والسماء الدامية والكثبان، حيث ضاع رفاقه الموتى، لقد جعلته الوحدة متوحشاً. الآخرون، الأساس، الموتى الآخرون، حيث يتكوم الآلاف. كانوا بلا نهاية.
- صباح الطيبة، همسوا له بأصواتهم الميتة المخبوزة، صباح النور
- تبارك الله
- أنتَ بنيتنا هكذا
- نحن ساخنون ومتوحدون. نحن جياع. نحن لا نأكل إلا الرمل. نحن ممتلئون به. نحن ممتلئون ولكننا جياع. نحن لا نأكل إلا الرمل.

سمعهم في كل ليلة، وحاول نسيانهم، حاول نسيان ما رأى. ولكنه حفر آنذاك حفرة في فنائه، لإرساء أساس منزله، وعندها وجد واحداً ينتظر. زوجه سمعته يصرخ، وهرعت خارجة لتراه يخربش في ذلك الثقب ليخرج، وقد أدمى أصابعه. لاحقاً قال لها احفري ما يكفي من العمق، مع أنها لم تفهم، هو موجود هناك سلفاً.

بعد سنة بناه، ولدى رؤيته لأول مرة، وصل إلى الأساس مرة أخرى. كانت المدينة حوله قد بنيت على جدار الموتى المطمور ذاك. امتدت خنادق ممتلئة بالعظام تحت البحر وربطت منزله بالصحراء.

هو سيفعل كل شيء كي لا يسمعهم، استجدى الموتى، واجه نظرتهم المحدقة. صلّى من أجل أن يصمتوا. انتظروا. فكر بالثقل فوقهم، وسمع جوعهم. وأخيراً قرّرَ أنهم لابد يريدون شيئاً.
يصيح "هاهنا شيء لكم"، ويصرخ مرة أخرى، بعد سنواتٍ من البحث. صور العائلات في الشقة تتساقط لترتاح بين الأساسات. " هنالك شيء لكم، يمكن أن ينتهي الأمر. توقفوا الآن. أوه.. دعوني وحدي".

ينام حيث يتمدد، على أرضية القبو، تمرّ فوقه العناكب. يمضي إلى صحراء حلمه. يعبر رماله. يسمع ولولة الجنود الضائعين، الأساس يمتد آلافاً من الياردات لا حصر لها، أميالا. لقد أصبح برجاً في السماء المحترقة. وكله من المادة نفسها، الموتى، عيونهم وأفواههم تتحرك فقط. غيوم ضئيلة من الرمل تنتثر حين يتكلمون.

إنه يقف في ظل البرج الذي جُعل يبنيه، جدرانه من قماش خاكي مشقوق طولياً، لحم وجلد بلون المغرة، متجمع بخصلات من شعر أحمر/ أسود داكن. ومن الرمل حوله ينزّ السائل الأسود ذاته الذي رآه في فناء منزله. دمٌ أم نفط. البرج يشبه منارة في الجحيم، نوعاً من برج بابل معكوس يصل إلى السماء ولا يتكلم إلا لغة واحدة. تقول كل أصواتها الأمر نفسه، الكلمات التي سمعها طيلة سنوات.
يستيقظ الرجلُ. يصغي. ويظل بلا حركة وقتاً طويلا. كل شيء ينتظر.

حين صرخ عالياً بدا صراخه بطيئاً واستفحلَ، يعلو لثوان طويلة. إنه يسمع نفسه. إنه مثل الجنود الأمريكيين الضائعين في حلمه.

لم يتوقف. لأن الوقت كان نهاراً، النهار بعد تقدمته، بعد أن أعطى الأساس كل ما اعتقدَ أنه يتوق إليه، بعد أن سدد له ما عليه. ولكنه ما زال يستطيع رؤيته. ما زال يستطيع سماعه، والأمواتُ مازالوا يقولون الأشياء نفسها. إنهم يراقبونه. الرجل وحيد مع الأساس، ويعرف أنهم لن يغادروا.

يصرخ منادياً أولئك الذين في الشقة التي سقطت، الذين ماتوا من أجل لا شيء بالمطلق. لا يريد الأساس شيئاً منه. تقدمته لا تعني شيئاً للموتى في خنادقهم، وهي تسم العالم بخطوطها المتصالبة. هم ليسوا هنا لتوبيخه ساخرين أو معاقبته أو تعليمه، أو طلب الانتقام أو ثمن الدم، إنهم ليسوا غاضبين أو قلقين. إنهم الأساس لكل شيء حوله. من دونهم سينهار. لقد شاهدوه، وعلموه أن يراهم، ولا يريدون شيئاً منه.

كل المباني تقول الأشياء نفسها. الأساس يجري تحتها كلها، متكسراً ومصنوعاً من موتى، ويقول الأشياء نفسها.

- نحن جياع. نحن وحيدون. نحن ساخنون. نحن ممتلئون ولكننا جياع
- أنت بنيتنا، وأنت بنيت فوقنا، وتحتنا ليس سوى الرمل.


* تشينا مييفيل(China Mieville)، كاتب بريطاني من مواليد عام 1972

ترجمة: محمد الأسعد

المساهمون