أزهى عصور الفوازير

أزهى عصور الفوازير

15 يوليو 2015

نيللي وشيريهان

+ الخط -
هل تذكر تلك الأيام الخوالي (اقرأها باللام أو بالراء إن أردت) حين كنا نقضي "العشر الأواخر" من شهر رمضان، وما تيسّر من شهر شوال، في الفرجة على محاورات "مضيعات" التلفزيون، مع "أعزائي كل أفراد الأسرة"، حول تقييم فوازير رمضان، وهل كانت نيللي "فاكهة رمضان السنة دي"، أم أن شريهان كانت أفكه منها في السنة الماضية؟ هل تذكر كيف كانت الفوازير موسم رزق، ليس فقط لمن يعملون بها، بل أيضا لمن يلعنونها من خطباء المساجد والمصلحين الاجتماعيين وحماة القيم، بالإضافة إلى الصحافيين الذين ساهمت الفوازير في تأمين مستقبلهم، من خلال مئات آلاف المواضيع التي "نحتوها" حول الفوازير، معارضة وتأييدا وتغطية وتقييماً؟ هل تذكر كيف كان لا يمر هلال العيد من دون أن نقرأ في شتى الصحف تنويعات على العنوان/السؤال "هل أصبح رمضان لا يصح بدون فوازير؟"، منشوراً أدناه كلام من فئة الـ"إستامبة"، يخرجه الصحافيون من أدراجهم، ليضيفوا إليه بعض الرتوش، تماما مثلما يفعلون مع موضوعات كعك العيد، وارتفاع أسعار اللحوم، وتوقعات مباراة الأهلي والزمالك، وتلوث فسيخ شم النسيم، وأزمة الثانوية العامة، وزمن الفن الجميل. 
راحت تلك الأيام، وراحت معها الفوازير إلى غير رجعة، وفشلت كل محاولات بعثها من جديد، مع أننا، ويا للعجب، نعيش بكل المقاييس أزهى عصور الفوازير، حياتنا كلها أصبحت فوازير خبيثة، لا مكان فيها لبراءة "التفزير" عن اسم الدولة الفلانية أو المهنة العلانية، صحفنا ملأى بفوازير ترتدي أقنعة الأخبار. تشعر، أحياناً، بأن الخبر الذي تقرأه لا ينقصه سوى أن ينتهي برقم تليفون، يجب أن يتصل به القارئ ليجيب عن سؤال الخبر: لمصلحة من تتم كتابة هذا الخبر؟
في قسم الصحافة بكلية الإعلام علمونا أن الخبر يتم طرحه للإجابة عن خمسة أسئلة: ماذا ومن وكيف ومتى وأين ولماذا؟ ويا ليتهم ما علمونا ذلك، فاليوم لا يحدث لدينا (ماذا)، لأن ما لا يحدث أكثر مليون مرة مما يحدث. وسؤال (من) لم تعد لديه سوى إجابة واحدة مقترنة بشخص وحيد كل الطرق تؤدي إليه، وكلها تودّي في داهية. و(كيف) سؤال لا يمتلك أحد حتى ذلك "الشخص" نفسه إجابة عنه، لأن كل شيء يمشي بالبركة. و(متى) سؤال إجابته مريرة هي عندما يشاء مزاج سيادته. و(أين) هو السؤال الوحيد الذي لدينا جميعا إجابة منطقية له، لأننا نعلم أن ذلك كله لم يعد يحدث إلا في مصر.
في فوازيرنا الوطنية، الآن، لا مكان لنيللي وفساتينها المبهجة، ولا لشريهان وشعرها الذي يغيظ بنات مصر، ولا لرقصها الذي يبهج شباب مصر، فالتصفيات النهائية، الآن، تجري بين ثعالب عجوزة، ما "بَشِمن برغم فناء العناقيد"، وبين ضباع صغيرة متعطشة للمكاسب السهلة. في فوازيرنا الوطنية اليوم، لا مكان لطرقعة صلاح جاهين، أو ألاعيب سيد حجاب المبهجة، أو حرفنة عبدالسلام أمين، فالنص كله ركيك منتهِي الصلاحية، لكنه مكتوب بخط كبير وتشكيل واضح، لكي تتمكن الأعين الضامرة من قراءته علينا، كأنه جديد ومدهش.
لا مكان لجنّونات عمار الشريعي، أو حتى لـ"نحت" حلمي بكر، فاللحن هو هو لم يتغير على مدى 28 عاما، والتوزيع دائما متروك لشطارة الموالسين، كل حسب رؤيته اللحنية، حتى لو كانوا جميعا قد عموا وصمّوا، ثم عموا وصمّوا عن كل شيء، إلا ما يبهج قائد الأوركسترا الذي نجحوا في إقناعه بأن المشكلة لم تكن فيه، بل كانت في النوتة. لا مكان أيضا لخدع الحاج فهمي عبد الحميد، فمجاراة الحداثة تقتضي أن نكسر الإيهام، ويكون اللعب على عينك يا تاجر، وإلا فلتنكسر رقبة من يعترض بعد أن يخبط دماغه في حائط العبور للمستقبل.
فوازيرنا المباركة باتت أكبر من قدرة العقل البشري على احتمال التفكير فيها: من أين أتى هؤلاء الباهتون، عديمو الموهبة والخيال، ليبهدلوا هذا البلد العظيم؟ وكيف سمحنا لهم ولمن سبقوهم بأن يستنطعونا هكذا؟ وهل يفرق تغيير الوجوه التي تحمل المسؤولية، إذا كانت المسؤولية نفسها ملقاة داخل نعش؟ وهل تأتي يوماً ساعة الحساب العادل؟ ولماذا يتحدى الحاكم في بلادنا كل قوانين الطبيعة وحقائق الزمن وأسباب الكون؟ فوازير مصرية خالصة، يبدو أننا سنموت بدون أن نعرف لها إجابة، مثلما مات قبلنا عمنا أبو الطيب المتنبي بحسرته، بدون أن يعرف إجابة لفزورته الشهيرة: "أكلما اغتال عبد السوء سيده/ أو خانه فله في مصر تمهيد"؟ 
(فصل من كتاب "ضحك مجروح" نُشر عام 2009)

دلالات

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.