أربع ساعات مع نجيب محفوظ بالدنيا وما فيها (2-2)

أربع ساعات مع نجيب محفوظ بالدنيا وما فيها (2-2)

13 ديسمبر 2018
+ الخط -
نقلت حديثي مع الأستاذ نجيب محفوظ إلى علاقته بالكتابة التي كان قد توقف عنها مجبراً بعد محاولة اغتياله، سألته: "ألا تشتاق للكتابة المنتظمة أحياناً.. فربما تأتيك فكرة رواية أو قصة أو حتى صدى جديد من أصداء السيرة الذاتية التي يحلم كثيرون مثلي أن يصدر لها جزء تاني"..

قال ضاحكاً: "صعب خالص حكاية الجزء التاني دي .. لكن على فكرة أنا باكتب كل يوم.. بس كجزء من علاج إيدي.. جايز بقى لما إيدي تخف أرجع أكتب بجد"، سألته "طيب إلى أن يتحقق ذلك قريبا بإذن الله، لو جاءتك مثلا فكرة من أفكارك اللامعة وأنت ما شاء الله حاضر الذهن دائماً.. ألا تحكيها لأحد مثلاً لكي يدونها حتى لا تنساها؟"، فأجاب: "أنا عمري ما كنت بأحكى فكرة لأحد.. طول عمري كده.. عمري مثلا ما رغيت مع حد وقلت له ده أنا عندى فكرة رواية عن كذا.. حتى فى البيت لا أقول لهم أبداً.. لو جت لي فكرة ونضجت في داخلي أكتبها على طول"، ثم صمت قليلا وأضاف بحزن شديد: "هذه الأيام ساعات كثيرة تأتينى أفكار.. لكن للأسف خلاص". وبعدها بفترة ولحسن الحظ بدأ الأستاذ نجيب في تطوير الكتابة التي كان يقوم بها لتدريب يده ليقوم بكتابة رائعته (أحلام فترة النقاهة).

حاولت تغيير اتجاه الحوار، فسألته: "يا أستاذ نجيب النظام الدقيق الذى بنيت حياتك كلها على أساسه.. ما كنتش بتزهق منه أحيانا وتحب أنك تبوظه بعض الوقت؟"، أجاب قائلاً: "أنا هندست نظام حياتى بحيث ما أزهقش منه أبدأ.. وقت للشغل بجد والتزام.. ويوم الخميس والجمعة أتفرغ لأصدقائى وأتفرج على سينما وأسمع أخبار الناس وأقرأ وأستمتع بحياتى.. وباقى أيام الأسبوع شغل.. ولذك لم يكن ممكن إني أزهق أو امل.. وبعدين فى الصيف لم اكن أستطيع الكتابة لأن عيني كانت تصاب بحساسية فكنت أسافر الإسكندرية وأقضي الصيف كله دون كتابة.. عشان لما أرجع القاهرة أبقى متعطش جدا للكتابة وأكتب طول الشتاء".


قلت له "يارب جيلنا يستفيد منك في القدرة على تنظيم الوقت.. إحنا للأسف مشكلتنا الفوضى والهرجلة"، فأضاف الأستاذ نجيب موضحاً أن البعض يسيئ فهم فكرة التنظيم التي يتحدث عنها، فيتخيل أنه يكتب طبقا لنظام صارم لا مكان فيه للتلقائية، لكن ما يقوم به من تنظيم ليس بعيداً عن التلقائية، بل على العكس هو مسبوق بتلقائيات عديدة، فهو لا يكتب بشكل هندسي، أحيانا يبدأ الكتابة في أول الرواية ثم يتركها ليفكر في نهايتها، أو يسرح مع شخصية لن تظهر إلا في المنتصف، مضيفا أن فكرة التنظيم الصارم للوقت لم تظهر لديه إلا عندما أدرك تعدد اهتماماته وأنه لن يستطيع أن يجمع بين كل هذه الإهتمامات إلا لو قام بتنظيم لممارستها، فكيف يمكن لشخص يحب القراءة والكتابة والعزف على القانون ولعب كرة القدم ومشاهدة السينما والجلوس مع الأصدقاء على المقاهي أن يفعل كل هذا لو لم يقم بتنظيم حياته تنظيما صارما، لكن بداخل هذا التنظيم هناك مساحة واسعة للتلقائية والإرتجال. يضحك الأستاذ نجيب وهو يتذكر واقعة حدثت بينه وبين الراحل الكبير يوسف إدريس قائلا: "مرة يوسف إدريس الله يرحمه قعد يقول لى نظام إزاى يا نجيب، يعنى فكرة الروية هتيجى لى لما أبقى منظم وأنا يعنى قاعد على المكتب، ضحكت وقلت له إزاي يا يوسف أنا ما بقولش كده.. أنا بافكر في الرواية وأنا بامشي فى الشارع أو وأنا نايم أو قاعد على مكتب لكن كتابة الفكرة نفسها دى هي اللي عايزة نظام"، وبعد صمت قليل قال "الله يرحمه يوسف، زي ما بيقولوا كل شيخ وله طريقة".

قادنا الحديث إلى سيرة الكاتب الكبير عباس محمود العقاد، فحكى لنا الأستاذ نجيب واقعة طريفة حكاها له الراحل مهدى علام عن العقاد، قال: "فى مرة كان هناك عالم أجنبى كبير يزور مصر وكان تخصصة علمى بحت، كيمياء أو حاجة زى كده، وبعدين عملوا له ندوة وحضرها العقاد وأخذ العالم يتحدث عن نظرية علمية حديثة، فقاطعه العقاد وقال له: لا.. فيه نظرية أحدث منها لسه طالعة الأسبوع اللى فات، وشرحها له.. الله يرحمه، كان بيتعاقد مع ناشر يأخذ منه صورة من أصول الكتب التى يسلمها له المؤلفون قبل ان تنشر لكى يقرأها قبل الناس.. شوف حب المعرفة وصل إلى حد انه يريد أن يعرف قبل الناس.. طبعا أى إنسان عظيم تجد له نقاط ضعف.. ونقطة ضعف العقاد أنه لم يستطع أن يكمل تعليمه ودراسته العليا ولذلك كان يريد دائما أن يثبت أنه أكثر علماً من الذين حصلوا على الشهادات العليا فكان واسع الإطلاع لكي يتجاوز نقطة الضعف تلك.. ابراهيم عبد القادر المازنى أيضاً صديقه كان له أسلوب رائع يمكنه من أن يصبح أهم كاتب قصة فى مصر لكنه لم يستغل ذلك وكان يبدد موهبته فى الكتابة لكل من يطلب منه أن يكتب فى جريدة أو مجلة، في رأيي لو كان قلل هذه الكتابة كان سيصبح أهم كاتب قصة في مصر.. أنا كتبت مقالات فى بداية حياتي طبعا لكني ربما بسبب تأثري بتجربة المازني توقفت وتفرغت للأدب، وكان دائما يُعرض علي الكتابة المنتظمة ورفضت ولم أكتب بانتظام إلا فى السنوات الأخيرة فى الأهرام بعد أن أصبحت كتابة الأدب فيها مشقة أكبر بالنسبة لي.. لكن لازم أقول إن اللي شجعني على اتخاذ قرار كهذا هو إن وظيفتي كانت تؤمني مادياً فلا أحتاج للكتابة فى الدوريات لكسب الرزق".

قلت له مشاغباً: لكن يا أستاذ نجيب البعض يفسر عدم رغبتك في الكتابة الصحفية بأنك لا تريد الاشتباك بشكل مباشر مع الواقع، ثم تحدثنا عن مقال كان قد نشره قبل لقائنا بفترة بسيطة كاتب من غلاة الناصريين يتهم فيه نجيب محفوظ بأنه لم يكن له موقف سياسي طول حياته، وكان يهرب من إعلان مواقف سياسية صريحة، وسألته: ما رأيك في هذا الكلام يا أستاذ نجيب؟، صمت قليلاً ثم قال: "هو يعني فى عهد عبد الناصر الكتاب السياسيين أصلا كان مسموح لهم يتكلموا فى السياسة وينتقدوا بشكل صريح ولا كانوا كلهم ساكتين وبيلجأوا للرمز"، وبعد لحظات من الصمت أضاف: "وبعدين أنا كتبت كل اللى عايز أقوله فى أعمالي.. وكنت حريص إن حتى يبقى التعبير عن مواقفي يبقى بحساب.. لإن أحيانا الحكاية بتزيد عن حدها.. يعنى في رواية (الأرض) بتاعة عبد الرحمن الشرقاوى.. الفلاح اللى فى الرواية لو كان فيه منه اتنين موجودين في الواقع ما كانش حصل اللى حصل"، ضحكنا جميعاً ثم قلت له: "على أية حال أنت أخترت الأكثر تأثيرا والأطول بقاء.. اخترت الأدب ولذلك ستعيش أطول من أى كاتب سياسي"، فهز رأسه ولم يعلق، كعادته حين يمتدحه أحد.


انتقلنا للحديث عن السينما، وسألني عن أوضاع السينما وعن الأفلام الموجودة فى السوق وقتها، ثم قال ضاحكاً: "أنا سمعت عن فيلم عمل نجاح كبير.. بتاع كامننا.. إيه رأيك فيه؟"، قلت له "الفيلم فنيا بسيط جداً إلى درجة دفعت بعض النقاد لوصفه بالتفاهة تعاليا عليه.. لكن الحقيقة أن بساطته نجحت مع الناس لأنها صادقة في رأيي وليس فيها إدعاء.. بينما فيلم مصروف عليه ولمخرج كبير زي فيلم (المصير) نزل معاه في نفس الوقت لم ينل نفس النجاح لأنه غلب عليه التكلف الفني"، هز رأسه ولم يعلق، فسألته عن تجربة كتابة قصة سينمائية لنادية الجندي، في حين تعود الجميع أن يشتري قصصاً قام بكتابتها ونشرها بالفعل، فأجاب: "هى جاءتنى تطلب قصة معينة فقلت لها إتباعت.. فقالت لي أنا عايزاها بأي شكل حتى لو سرقتها وبعدين طرحت حلا أن تغير فى القصة لكى تأخذها لأنها كانت معجبة بها وقمت بهذا التغيير وبالتالي تم اعتبار القصة مكتوبة خصيصاً للسينما". قلت له: "حضرتك سمعت طبعا عن الراقصة فيفى عبده؟"، ضحك وقال "أمّال!"، قلت له: "أنا بقى شفت من كام سنة فيلم اسمه (نور العيون) كاتبين عليه بالبنط العريض قصة نجيب محفوظ وشجعني إن اللي كاتب السيناريو سيناريست كبير والمخرج كمان مخرج كبير، ودخلت الفيلم لقيته مالوش علاقة خالص بالقصة اللي المفروض مأخوذ منها الفيلم"، ضحك وقال: "أصل القصة دى اشترتها شركة انتاج وبعدين فكروا مين اللى يصلح لها.. فقالوا فيفى عبده.. ومع إن القصة ما كانش فيها شخصيات نسائية خالص.. إلا أنهم غيروها.. وخلوها ما فيهاش رجالة خالص عشان فيفي عبده، بس يعني ما تقدرش تلومهم"، لينفجر الجميع بالضحك على تعليقه الأخير.

أضاف الأستاذ نجيب أنه أخذ على نفسه عهداً منذ زمن بعيد، ألا يتدخل إطلاقا في أي فيلم يتم أخذه عن رواية أو قصة له، ولم يكن يمكن أن يتخذ قراراً كذلك، لو لم يكن قد عمل في السينما وعرف كواليسها وطريقة العمل فيها، وأدرك أن أي دخول في نزاع على الطريقة التي يتم بها تحويل رواياته إلى أفلام لن يتسبب له إلا في تضييع الوقت، لا ننسى هنا أن تحويل روايات نجيب محفوظ إلى أفلام تأخر كثيرا، برغم شهرة رواياته ونجاحها، وبرغم أنه كان قد بدأ تجربة العمل ككاتب سيناريو مع صديقه المخرج الكبير صلاح أبو سيف في فيلم (مغامرات عنتر وعبلة) عام 1947، وظل منذ ذلك الوقت يقوم بكتابة السيناريو في فترة أجازته حتى لا يعطل عمله الروائي، ولم يفكر أبدا أن يلفت نظر أحد من أصدقائه إلى عمل رواياته كأفلام، برغم أن علاقته الإنسانية بهم كانت تسمح بذلك خصوصاً صلاح أبو سيف، ومع ذلك فقد كان الوسط الفني يتعامل مع رواياته بوصفها أعمالا ذات تعقيد فني وأدبي لا يصلح تقديمها إلى السينما، ولم تتغير هذه النظرة كما قال الأستاذ نجيب إلا بعد أن قام الكاتب أحمد عباس صالح بإعداد رواية (بداية ونهاية) كمسلسل إذاعي، فحققت نجاحاً كبيراً، جعل المنتجين يتهافتون عليه لعملها، لكنه رفض أن يقوم بكتابة السيناريو لها، ليلتزم منذ تلك اللحظة بمبدأ الفصل التام بين دوره كأديب وبين دوره ككاتب سيناريو. قلت له: "من أسبوعين عرضوا فى التليفزيون فيلم "السراب" لكن شالوا منه مشاهد كتيرة أخلت بمضمون الفيلم، حتى الناس اللى شافت الفيلم قعدت تتريق على ده وقالوا إن الفيلم ساعتين اتعرض منه ساعة وشوية.. يعنى فيه مشاهد مهمة وداخلة فى أساس فكرة الرواية وشالوها.. برضه لما عرضوا زقاق المدق عملوا مذبحة رقابية وشالوا جمل كثيرة ومشاهد"، استغرب الأستاذ نجيب لما قلته وقال بهدوء: "غريبة طب إيه اللى زانقهم على كده؟.. كان عدم عرضه أحسن".

برغم علاقته الوثيقة بالسينما، إلا أن الأستاذ نجيب لا يخفي أنها لم تنجح في زعزعة حبه للأدب، وأنه دخل السينما مضطراً، بعد أن اعتقد خلال إصابته بأزمة التوقف عن الكتابة لفترة طويلة بعد قيام ثورة يوليو أنه انتهى كأديب، لدرجة أنه قام بتسجيل نفسه في نقابة السينمائيين كسيناريست، مؤكداً أنه تأمل تلك المرحلة طويلاً فلم يصل إلى تفسير نهائي لما كان يشعر به وقتها، ولا لماذا توقف عن الكتابة، هل كان محقاً في شعوره أن ثورة يوليو بدأت تحقق أحلامه التي كان يكتب من أجلها، أم لأنه كان يخفي بداخله توجساً من الثورة وعدم فهم لها، أم لأنه كان قد تعب من المجهود الهائل الذي بذله في كتابة الثلاثية والذي جعله يلجأ لعمل أرشيف لكل شخصية من شخصيات الرواية التي زادت عن الخمسين قبل كتابة الرواية، يتضمن كل التفاصيل الشكلية والنفسية والخلفية الحياتية لكل شخصية، أم لأنه تشبع من طريقة الكتابة القديمة وكان لا بد له من أن يستأنف الكتابة بشكل مختلف؟، أم لكل هذه الأسباب مجتمعة؟، لكن ما هو متأكد منه أنه بعد خمسة سنين من التوقف الكامل عن الكتابة وجد الأدب يتحرك ثانية بداخله دون سابق إنذار، فشعر بفرحة عارمة لأنه كان يشعر بالإغتراب الكامل عن ذاته في سنوات العمل السينمائي، برغم أنها كانت من الناحية المادية أحسن له كثيرا من الأدب، لكنه نفض يديه من السينما فورا ورجع بلهفة إلى الأدب.

في مواضع متعددة من حديث الأستاذ نجيب خلال تلك الجلسة، تستطيع أن تلمس إخلاصه الدائم لإدارة جميع شئون حياته بمنهج علمي عقلاني يعبر عنه قائلاً: "أنا راجل باحمد ربنا إنه هداني إلى الإيمان بالمنهج العلمي، أحاول ألا أصدر حكماً في قضية إلا لو كان وراه حيثيات عقلية مقنعة، وأعتقد إن أحوالنا كانت هتبقى أفضل لو حرصنا إننا نخلي كلامنا معقول ونفكر بعقولنا مش بغرائزنا"، لذلك لم يكن الأستاذ نجيب يلجأ إلى استسهال تأييد مواقف تبدو متسقة مع تجربته وعمره، فحين بادر البعض في جلستنا للهجوم على أفلام السينما الكوميدية التي تحقق نجاحات تجارية، وجدته يهتم أكثر بالسؤال عن مدى نجاح الفيلم ومحاولة فهم لماذا حرص الكثيرون على مشاهدته وصلة ذلك بالظروف الإجتماعية السائدة في البلاد، وحين استسهل أحدهم الهجوم على الأغاني التي يغنيها المطربون الشباب، ربما لأنه يعلم ولع الأستاذ نجيب بغناء أم كلثوم وعبد الوهاب بل وارتباطه الوجداني بأغنيات جيل أسبق مثل منيرة المهدية وعبد الحي حلمي وصالح عبد الحي، ودراسته القانون في معهد الموسيقى العربية، يأتي رد الأستاذ نجيب مختلفاً بشدة حيث قال: "طالما في موسيقى وفي غناء، وفي ناس بيحبوها، يبقى ده كويس وما يزعجنيش.. ما يزعجني هو اختفاء الموسيقى والغناء.. احنا ناس لينا دنيانا وذوقنا الغنائي والأجيال دي ليها دنياها وذوقها الغنائي ولا بد من احترامه".


وحين استسهل البعض الحديث عن تأثير وسائل الإعلام والتكنولوجيا الحديثة على التواصل بين الناس، اختلف مع ما ذهبوا إليه قائلاً:"ظاهرة الإنفصال بين الناس ظاهرة حضارية أكبر من وسائل الإعلام والتكنولوجيا.. ووراها تعقد مسئوليات الناس وضغط الحياة ولو تم تحسين هذه الظروف هيتحسن التواصل بين الناس بس ممكن تتغير أشكاله.. والحضارة في تطورها مكسب وخسارة، ولا يمكن الإنسان إنه في تطوره يكسب كل شيئ على الدوام، يكفي إن المكسب يضارع الخسارة في القيمة ولو تفوق عليها كمان ده يبقى شيئ كويس"، أما حين جاءت سيرة الإتهامات التي أعقبت حصوله على جائزة نوبل للآداب، وقد كنا وقتها في عام 1998 على وشك الإحتفال بذكرى مرور عشر سنوات على نيله الجائزة، وكان مثيرا للتأمل كيف لم تصمد تلك الإتهامات بل أصبحت في حد ذاتها سببا لإتهام من أطلقوها، ومع ذلك لم أجد في مناقشته لتلك الإتهامات تشنجاً ولا رغبة في مهاجمة أبرز مطلقيها، بل وجدت يؤكد بهدوء على أن الصحافة كانت ستفيد القارئ أكثر لو ناقشت تلك الإتهامات بشكل عقلاني، لتثبت خطأها، بدلاً من تركيز أغلب الصحفيين على العناصر الشخصية، وأن قراءة تاريخ الجائزة بشكل موضوعي كان سيكون فرصة لتعريف القارئ على تطور الأدب العالمي، لكن رده أيضا لم يخلُ من سخرية حين سأل: إذا كانت الجائزة صهيونية فعلاً، فلماذا رأى بعض الذين هاجموني عليها نفسهم أحق بها ولماذا سافروا كما نشر من أجل التعرف على من يمنحونها، "ولّا هي ما بقتش صهيونية إلا لما فاتتهم"، يقول ثم يضحك من أعماقه.

بعد لحظات من الصمت طلب الأستاذ نجيب من صديقه نعيم صبرى أن يواصل قراءة رواية (حكايات المؤسسة) لجمال الغيطانى، وبعد أن قرأ الأستاذ نعيم بعض المقاطع ثم توقف بعض الشيء، قال لي الأستاذ نجيب: "بقى لنا شهور بنقرأ فى الرواية دى.. كل جلسة نقرأ شوية وأحيانا الضيوف يقاطعونا فما نكملش.. قبلها قرأت رواية ( لا أحد ينام فى الإسكندرية) بتاعة إبراهيم عبد المجيد وأعجبتنى جدا.. ممتازة وحلوة..إنت إيه رأيك فى حكايات المؤسسة.. قرأتها؟"، قلت له: "بصراحة لم تعجبنى.. أحسست أنها غامضة وملغزة..وليست من أفضل ما كتب الغيطانى.. هو كتب ما هو أجمل بكثير، لكن أنا حبيت جدا رواية لا أحد ينام في الإسكندرية"، عاد الأستاذ نعيم صبرى إلى القراءة حتى أنهى فصلا من الرواية، وبعدها قلت للأستاذ نجيب: "إيه رأيك فيما سمعته ياأستاذنا؟"، قال لي: " والله هي مشوقة وجذبتنا.. لم نمل منها.. وأعتقد لن يستمتع بها إلا الذى عاش تاريخ مصر المعاصر.. سيستطيع أن يتذوقها.. لأنها لا تحكى عن أبطال رئيسيين وحواديتهم.. بل تتناول ما هو أعمق.. ولذلك يلجأ لمزج الواقع بالأسطورة بالرموز.. وهو ما سيكون غامضا على من لم يعش الفترات الماضية".

كان الدكتور يحيى الرخاوى قد قال لى قبل ذلك أنه يقرأ أهم ما فى صحيفة (الدستور) أسبوعيا للأستاذ، ونقل لى بعض آراء الأستاذ فيما كتب عنه فى الدستور، وخصوصا عن استفتاء واسع لاختيار أهم الروايات في تاريخ الأدب العربي كنت قد شاركت في إعداده مع الأصدقاء حمدي عبد الرحيم وأشرف عبد الشافي وسيد محمود، وقمنا فيه باستطلاع آراء أهم أدباء مصر وكتابها من مختلف الأجيال، وتم نشر نتائجه على صفحتين في الجريدة ليحدث ردود فعل قوية في الأوساط الثقافية، ولم أتوقع أن يكون الأستاذ نجيب متابعاً لتفاصيل الاستفتاء وأسماء المشاركين فيه، حيث سألني: "لماذا لم تشركوا فى الاستفتاء كبار النقاد.. يعنى مثلا لم يشارك الدكتور على الراعى ولا الدكتور عبد القادر القط ولا الدكتور شوقى ضيف ولا الدكتور أحمد هيكل وهو له دراسة عن تاريخ الرواية فى مصر.. يعني أنا لاحظت أن نسبة كبيرة من الذين شاركوا من جيل الستينيات.. وهم بينهم وبين بعض صداقات وعداوات تؤثر على أختيارتهم"، قلت له: "يا أستاذ نجيب اتصلنا بهم جميعا ورفضوا الاشتراك.. حتى أن ناقداً كبيراً لا داعى لذكر اسمه وصف الاستفتاء بأنه فكرة سخيفة.. مشكلة بعض كبار نقادنا يا أستاذ أنهم منعزلون جدا ويغلقون الأبواب فى وجه الشباب الجديد، يعنى نحن فعلنا ما علينا"، فهز الأستاذ نجيب رأسه ثم تمنى لو أن كبار النقاد شاركوا فى الاستفتاء ليزيدوا قيمته، فقلت له إن عدم مشاركتهم ربما جعل الاستفتاء معبرا أكثر عن الأجيال التالية لهم التى لم تحكمها اعتبارات الأجيال، فلم تتحيز للكتاب الأقرب منها سنا، بدليل أنها أنصفت سعد مكاوى وتوفيق الحكيم واختارت لنجيب محفوظ روايتين.

بعد ذلك انتقلنا للحديث عن أسلوب الكتابة في صحيفة (الدستور) واستخدامها للهجة العامية، والذى اعترض عليه الدكتور الرخاوى فى عموده اكثر من مرة، ولذلك فتح الموضوع للمناقشة فى الجلسة، قائلا للأستاذ نجيب أنني شريك في تحمل مسئولية ذلك لأنني أقوم بكتابة عناوين أغلب صفحات (الدستور)، مؤكداً انه لا يرى مانعاً فى استخدام العامية مثلا فى صفحة الجريمة أو الرياضة أو صفحة بريد القراء مثلا، لكنه ضد أن يأتى فى عناوين الصفحة الأولى تعبيرات عامية صارخة، لأن مثل هذا الاستخدام قد يلخبط القارئ ويؤدى الى خسارة الدستور على المدى البعيد، وقلت في ردي على الدكتور يحيى أن العامية التي قرر الأستاذ إبراهيم عيسى رئيس تحرير الدستور منذ البداية استخدامها في عناوينها أحياناً وتطعيم موضوعاتها بها هى عامية صلاح جاهين وبيرم التونسي وعامية السينما المصرية، وهى جزء من الأسلوب الذى أختارته (الدستور) لتقديم صحافة جديدة وكسر الجمود الذى سيطر على الصحافة المصرية، وأنه عندما تخسر قارئاً مثقفاً يضايقه استخدام العامية بينما تكسب مائة ألف قارئ أسبوعيا يشترون جريدتك فهذا مكسب، فعلق الأستاذ نجيب قائلاً: "أنا معاك إنك لازم تهتم بزيادة عدد القراء.. لكن رأى الدكتور يحيى مهم.. وأعتقد أنه لازم يتم حصر استخدام العامية فى صفحات معينة وما تستخدمهاش فى الصفحة الأولى مثلا".

انتقلنا إلى موضوع آخر مع اقتراب الجلسة من نهايتها، حين سألت الأستاذ: " أستاذ نجيب.. معلهش هناك سؤال ومش هاقدر أروّح إلا لما أسأله: هل تعرضت فى حياتك لتجربة حب فاشلة؟"، ضحك وقال لى "هو كان حب فاشل من الأول.. يعنى زي أى مراهق أحببت واحدة أكبر من سني.. وكان محكوما على هذا الحب بالفشل"، قلت له "زى حب كمال عبد الجواد وهو طفل فى الثلاثية" قال لي: "بالضبط.. تماما"، فقلت ضاحكاً: "أصل السؤال ده مهم لأي شاب في سني عشان يتأكد أنه لم يكن وحده الذى فشل حبه، يعني كونك تحس إن نجيب محفوظ فشل في حبه برضه ده يديك نوع من العزاء"، فأضاف ضاحكاً: "طبعاً كان لي حب فاشل، بس بعد كده مشي بي الحال زى باقي الناس.. تمام يعني"، ثم أضاف بعد صمت: "عموماً.. الفشل ده هو اللى بيخلى التجارب العاطفية دي تعيش وممكن تتحول إذا كنت واخد بالك منها إلى كتابة عظيمة".

قمنا بعدها لمغادرة المكان، وكان مفروضاً أن يرجع الأستاذ نجيب إلى منزله فى سيارة الأديب نعيم صبري، أصر الأستاذ بلطفه وتواضعه على أن يوصلوني بالسيارة في طريقهم، خاصة بعد أن عرف أنني أسكن في شارع القصر العيني، ولم أكن لأفوت فرصة كهذه، ونحن نسير فى طريق الكورنيش باتجاه منزل الأستاذ، عاد الأستاذ نجيب إلى صمته لأن صوت حركة السيارة يجعل سماعه لمن يحدثه مستحيلاً، كان الحارس الشخصى للأستاذ يجلس إلى جوارى فى الخلف ممسكاً بمسدسه، وعربة الحراسة تسير خلفنا، أخذت ألعن الزمن الذى يضطر أعظم روائي مصري وواحد من أهم كتاب العالم إلى أن يُحرم من متعته المتبقية في السير فى شوارع المدينة التي عاش فيها طيلة عمره، فقط لأن شاباً فارغ العقل اقتنع أن قتل شيخ عجوز لم يقرأ له حرفاً هو الذي سيدخله الجنة، كان من المضحك المبكي يومها أننا توقفنا في إشارة المرور الموازية لسور مجرى العيون، لنرى رجلاً يقف في ركن من السور ويتبول عياناً بياناً، تذكرت وقتها ما قاله الأستاذ نجيب يومها في ختام جلستنا، عن أنه لم يعد لديه أمنيات يتمناها لنفسه، فكل ما يطلبه هو حسن الختام، لكنه يتمنى قبل أن يرحل عن الدنيا أن يرى مؤشرات لخروج مصر من أزمتها، لا زلت أذكر استخدامه لتعبير كان يكرره كثيراً في حواراته: "لو مصر اتوزنت هاحس بسعادة مالهاش مثيل"، قلت لنفسي وقتها إن أحداً لو سألني نفس السؤال لكنت أكثر تواضعاً في أحلامي ولتمنيت أن أرى مرحاضاً عمومياً في كل شارع، لعل ذلك يمنع الناس من التبول في الشارع، وسأعتبر عندها ذلك بداية اتزان مصر، ومن عجب أن الأيام لم تحقق حتى الآن أمنيتي ولا أمنية الأستاذ نجيب التي لا زال يشاركه فيها ملايين يحلمون لمصر بأن "تتوزن" أحوالها ولو قليلاً.

حين وصلت إلى أقرب نقطة لبيتي، شكرت الأستاذ نعيم على إتاحة هذه الفرصة لقضاء وقت أطول مع الأستاذ نجيب، وحرصت على تقبيل رأس الأستاذ الذي دعاني لتكرار الزيارة، لكنني لم أكررها أبداً، برغم أن الفرص كانت متاحة لذلك طيلة السنوات التالية، لأن ما شعرت به يومها من حزن شديد على حالة الأستاذ الصحية، واضطرار من يرغب في التواصل معه إلى الإثقال عليه، جعلني أفضِّل صحبته الدائمة في دنيا كتابته الواسعة التي لا تطيب الحياة بدونها، معتبراً أن تلك الساعات الأربع التي قضيتها في حضرته بالدنيا وما فيها.

ألف رحمة ونور عليك يا أستاذ نجيب.

- فصل من كتاب يصدر قريباً بإذن الله بعنوان (من خيرة الناس)
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.