"رماد الجذور"... وانتحار الزمان والمكان في وطن من ورق

"رماد الجذور"... وانتحار الزمان والمكان في وطن من ورق

16 فبراير 2020
+ الخط -
لم يستطع أي قارئ مهما تأخرت ذائقته الأدبية في معرفة السرد والحكبة وتجاوز الخيط الرفيع الذي لَضَمَه كاتب رواية رماد الجذور الأديب محمد طاهر النور في سرد حقائق جمعت الكثير من شمائل هذا البلد وتركيب أحداث ظلت غائرة فيه..

لكن الرواية والمتابعين للأدب يكتشفون في داخلها الكثير من الماضي وفروقاته السياسية وخلط أحداثه من مستعمر وقف كغصة في حلق البلد، وإنسان يتمايل من سياسات الأتاوات والضرائب التي يسترزق منها إقطاعيون سلطهم المستعمر لكي يلعبوا أدواراً مختلفة، ويربحون بذلك الطاعة المطلقة لبث الخوف والرعب في نفوس المواطنين وعامة الشعب الذين بدأت ظروفهم المعيشية تتدهور في أن تخط رحالها إلى بدائل مرة بأن يتزعم شيوخ القبائل زمام جمع "الميري" أي غرامات باسم الحاكم الفرنسي، وتسير أحداث الرواية وشخصياتها المتداولة للأدوار كي تنخر لب الحياة الاجتماعية، زواج، طلاق، حروب ومغارات تقع بين النسيج الاجتماعي المتعايش في مواطن جغرافية جمعت فيهم الكثير من الصفات، ثم أفراح لعرائس وختان، والعقوقة، ثم المآتم، ومواسم الترحال في مجتمعات أدمنته كابراً عن كابر، وفترات المصيف في بادية تقود البطل ومن معه من عائلة وزملاء لكي يقفوا في أماكن الكلأ والمراعي لمواشيهم، ثم مواسم الخريف الذي يقودهم إلى أماكن تنفرد بجمالها، جبال، وسهول، وصحار إلى جانب البطحاء التي ترقد في طول الأرض هذه، تتشكل جذور الرواية الأولية في قرية جوغانة، ولدت عائلة أحمد النمير ثم بعد هروبها من النظام التعليمي الذي يعتبره الأهالي هنا بأنه تعليم "كفار" نسبة للمستعمر الفرنسي الذي يحاول بقدر الإمكان أن يفرض ثقافته ولغته.

الشخصيات الرئيسية داخل الرواية هم الحاج أحمد النمير وأبناؤه وكذلك أحفاده وغيرهم من أفراد عائلة النمير التي انتقلت من حياة البادية إلى صخب المدن والدخول إلى عوالم الحضارة، التعليم، والانفتاح مع الآخر، وكذلك رسم سيرة جديدة قشر فيها الماضى وأحداثه والكثير من التفاصيل التي صاحبت تلك العائلة إلى آخر فرد فيها، تزاوجت وتوالدت، دخلت أروقة الدولة، كونت جيلاً عرف الكثير من واقعه، إلا أن الحرب وخرابها ومآسيها وأوجاعها خيبت بظلالها لتعارك آخر شخص أصبح وحيدا خسر الحب والفوز به، دوما ما نجد شخوص الرواية تراجع خلفيات تاريخية باستدعاء الماضي المسرود عبر أناس عايشوه، تعرفوا إلى أحداثه، شاركوا فيها، نبشوا حزءا من مجرياته، رصاصه، دمائه، موته، جراحاته الغائرة، شتاته،غربته، فقده، لوعته، دموعه المتدلية كالمطر، سواده، ظلماته، وظلامه وظُلمه، إنها الحكاية عن الحروب والمغارات التي عاشتها كل المجتمعات في هذا البلد، تذهب الرواية إلى أكثر من مراقد تاريخية، كتلامس مشاهد الثورات بداء بفرولينا إلى آخر ثورات عاشت في صراعات مصالح في ظل هذا النظام، كل هذا والناس مشتتة في البعيد، عوائل نزحت، وأخرى سودتها سحب الفقد لرجالها، جيل الآباء والأبناء والاحفاد، سلسلة من شبح الماضي حملته تلك الأيقونة الرواية، ومعالجته في قوالب متفرقة وأخرى تزاحم المستجدات في الأنظمة العسكرية التي أثرت في مواقع كثيرة.


لا تقف الرواية في فتح الماضي وملازمة حاضره، بل تذهب أبعد إلى مستقبل غامض بقراءات متفردة نسجت بخيالات بديعة رصت فيها، ليتجاوز بذلك الروائي طاهر المسكوت عنه.

تقع رماد الجذور في أربعة فصول يبدأ الفصل الأول بـ"الجذور"، انتقال وعطب في الفصل الثاني، في الفصل الثالث نقرأ السيرة في رقم 365 وهي عدد أيام السنة، وأخيرا رماد الجذور، عدد صفحاتها 651 صفحة، الصادرة عن دار المصورات 2019، التقنيات المستخدمة داخل حقل الرواية متغيرة مع أبطالها ومواقفهم، ظروفهم، ترحالهم، حروبهم، زواجهم، موتهم، وقوعهم في الحب، منعهم منه، مطاردت العادات والأعراف لهم..

وثقت الرواية التاريخ القديم والمعاصر لتشاد بجميع حقبه، عانى أبطالها الكثير من الاضطهاد والعوز والحاجة، حلحلت بتخيلاتها الواسعة والصائبة في أكثرها مشاهد لا نسمعها إلا عند من عاشوها، لكن رماد الجذور فتحت صفحاتها لتجمع بين المقروء والمسموع والمحكي، لتقول إنها قاربت من وجهات نظر متعددة، بلغة أكثرها استعمالات شعبية وعرف لأمكنة وأسماء لأشياء نتدوالها في حياتنا اليومية، نجدها في أسواقنا، مدراسنا، بيوتنا، شوارعنا، مساجدنا، مكتباتنا، مطاعمنا، قُرانا وبوادينا، ومدننا، في الجنوب، والشمال والشرق والغرب وإن اختلفت التعريفات المعنى واحد، تقول نصوص الرواية "عن وقائع الهزيمة، فلول المنحدرين، الرجال المحطمون، المحبطون، الهائمون على وجوههم فوق الهضاب وعبر الأودية، مشرذمون بين الغبار والتعب والعرق والعطش والجوع والجراح، جميعهم ضحايا بالمجان الزمن الخراب والخرى والفساد وروائح العفن..

في الصفحة 148.. تسرد واقع المدن المزدحمة بالأوساخ وغياب النظافة حالة العاصمة أنجمينا "رائحة المجاري الكريهمة، البغيضة، المتداخلة، بخليط من الوحل الطيني، البرك الصغيرة، الأوساخ، فروع أشجار النيم التي أسقطتها فرقعات الرعود في ذلك الصباح، إضافة إلى الريح التي هبت بقوة فتركت الأشياء: الأشجار، العلالي، الشرقانيات، الغرف الطينية، أعجاز نخل خاوية، عصفت بقرميد السقوف، أسلاك الكهرباء، والأعشاش البلاستيكية.. فتبدو الطرق كأنها أوعية قديمة مصطدمة بالأرض، أوعية تتهادى حركاتها في محيط كله طين في طين في طين"..

ثم يجري الحديث عن الوطن الذي يقول عنه أحد ابطال الرواية لابنه بأن الوطن "غير قابل للتجزئة، للمساومة، وطننا وطن جريح علينا أن نساعده في التئام جراحاته المستنفرة ونحذّر من سماسرته، لا أن نتكالب عليه من أجل اقتسام الزعامة، أو الانفراد بالسلطان، أو تجميع القناطير من شتى ربوعه"..

"كيف تكون هذه الأرض وطنا، إذا كنا غير قادرين على حماية أنفسنا وأعراضنا وأموالنا".. تقول ميرم في الصفحة 398 "جدنا يقول، الحرب ليست خيارا، والقبيلة ليست دثارا، تشبثنا بأعرافها وتخاريفها لا يوجد إلا الرجعية المشوهة والتعصب النتن. "بهذه التضاريس والمنحدرات في الطرح وقراءة مصير وطن بسؤال أين تزيح الرواية عنه النسيان وترفعه بجميع الاتجاهات؟ الوطن ينتظر أما نحن فإلى زوال؟"..

بإجابة مقتضبة: "الأرض التي دنستها أقدام القتلة، ولوّثت ترابها الحميم سيول الدم سوف تحيا، الأرض التي استحمّت بدماء الوطنيين وعرقهم، سوف تحيا لا محالة".

ربما يكون الأديب محمد طاهر النور هو السبب لنقل الأدب التشادي المنسي في دواليب كُتابه والذي لم يفصح عنه بعد ولم تر النور كتابات لجيل يجب أن يعرفه العالم بإبداعاته (محمد جدي حسن - عامر القوني - كوثر سالمي - يوسف ماريل - حمز باشر) وغيرهم من الأسماء الأدبية لشباب نتمنى أن تتدوال أعمالهم التي لم تجد دور نشر أو أي جهات داعمة لتخرج هذا العمل من سراديب النسيان، في ظل الخمول والإهمال للدولة التي ترقص في أماكن محرمة لا تخدم المعرفة بشيء.


هذه الرواية الأولى للكاتب قبل روايته سيمفونية الجنوب التي ترى النور وتحقق قراءات بطيئة في الداخل في ظل غياب النقاد ومحللي الأدب وعمالقة الكلمة لواقعنا التشادي البطيء في كل شيء.

دلالات

DCDA8F68-FEF8-4439-9CD6-C2BDBF199BE7
أبو بكر عبد السلام

إعلامي وناشط في الشأن التشادي والأفريقي، وسكرتير تحرير صحيفة "انجمينا الجديدة".