"ذوبان الجليد الكوبي": مشهدية هافانا تختصر إرث أوباما

"ذوبان الجليد الكوبي": مشهدية هافانا تختصر إرث أوباما

20 مارس 2016
من افتتاح السفارة الأميركية بهافانا الصيف الماضي (سارة فوازين/Getty)
+ الخط -
انطلق مسار ما تعارف على تسميته "ذوبان الجليد الكوبي"، أو "تطبيع العلاقات بين واشنطن وهافانا"، بمفاوضات سرية بين الطرفين في يونيو/حزيران 2013، ليصل الى ذروته غداً وبعد غد، في 21 و22 مارس/آذار الحالي، حين يُسجّل باراك أوباما سابقة تاريخية، كأول رئيس أميركي يزور الجزيرة رسمياً منذ رحلة سلفه كالفين كوليدج إلى هافانا عام 1928، في عزّ التدخل الأميركي في أميركا اللاتينية. صور أوباما وهو يسير في شوارع هافانا، ستختصر في مشهديتها إرث رئيس بنى عقيدته الخارجية على محاولة إنهاء التوتر مع أعداء أميركا حول العالم.

مشهدية ستكون بارزة في كل محطات الزيارة الرسمية، من العشاء الرسمي في قصر الثورة إلى وضع إكليل الزهور على النصب التذكاري لخوسيه مارتي، أحد رموز الاستقلال الكوبي في القرن التاسع عشر، في ميدان الثورة حيث النصب التذكاري لرموز الثورة الكوبية مثل تشي غيفارا وكاميلو سينفويغيس. كما يلقي أوباما من مسرح هافانا الكبير خطاباً موجهاً إلى الشعب الكوبي، يأمل البيت الأبيض أن تبثه السلطات مباشرة على التلفزيون الرسمي.

إدارة اوباما لم تخفِ نواياها بأن غاية الزيارة "تسريع" هذا التحوّل في السياسة الاميركية تجاه كوبا ليصبح "مسار التطبيع دائماً ولا رجعة فيه"، وبالتالي قطع الطريق على أي محاولة للعودة الى الوراء في حال فاز رئيس جمهوري في الانتخابات الرئاسية المقبلة. على عكس سلفه الذي زار هافانا على متن سفينة حربية، يصل أوباما عبر طائرته الرئاسية برفقة وفد موسع يضم وزير الخارجية جون كيري ووزير الزراعة توم فيلساك ووزيرة التجارة بيني بريتزكر إضافة الى وفد من الكونغرس ومن الشركات الأميركية المهتمة بالاستثمار في كوبا.

نتيجة لمراحل التطبيع التي بدأت العام الماضي، أقرت إدارة أوباما سلسلة إجراءات منها السماح للمصارف الأميركية بتسهيل المعاملات المالية الآتية من كوبا، ليزال الحظر الذي منع الجزيرة على مدى عقود من بيع منتوجاتها دولياً. كما رفعت أميركا، كوبا عن لائحة البلدان التي ليس لديها ترتيبات أمنية كافية على حدودها المائية، ما سيؤدي إلى تسهيل تحرك السفن السياحية والتجارية الأميركية عبر مضيق فلوريدا، من دون التوقف عند خفر السواحل الأميركي. كما توصّل البلدان إلى اتفاق يعيد تشغيل الرحلات الجوية المباشرة للمرة الأولى منذ 50 عاماً، ما يسمح بإطلاق 110 رحلة مباشرة يومياً ابتداءً من الصيف المقبل. لكن العائق الرئيسي أمام التبادل التجاري والسياحي، يبقى رفض الكونغرس رفع الحظر الأميركي عن كوبا التي تقع على مسافة 90 ميلاً (144.841 كليومتراً مربّعاً) من جزيرة "كي ويست" في مضيق فلوريدا. الحدّ الفاصل بينهما، هو خليج المكسيك، الذي عبره على مدى عقود، المهاجرون الكوبيون، بحثاً عن "الحلم الأميركي". جعلت الجغرافيا هذه العلاقة أكثر تعقيداً بين البلدين، عبر التاريخ الذي حاولت واشنطن من خلاله فرض سيطرتها على الجزيرة اقتصادياً وعسكرياً.

في العام 1877، استوردت الأسواق الأميركية 83 في المئة من مجمل الصادرات الكوبية، ما سمح تدريجياً بإحكام السيطرة على الجزيرة، التي كانت ترزح تحت الاستعمار الإسباني. بعدها تدخلت الولايات المتحدة عام 1898، لمساعدة كوبا في ثورتها على هذا الاستعمار، لكن بعدها طالبت بامتيازات مقابل إعطاء سيادة الجزيرة إلى هافانا مثل الاحتفاظ بحق التدخل العسكري إذا دعت الحاجة، وبيع أو تأجير الولايات المتحدة أراضٍ لمراكز بحرية، وهذا البند الأخير أدى إلى إحكام السيطرة الأميركية الدائمة على خليج غوانتانامو. أما الاستقلال الكوبي، فقد كان بداية لخمسة عقود من التحولات السياسية، وصولاً إلى حكم فيديل كاسترو بين عامي 1959 و2008، في فترة طبعتها المواجهات الحادة مع واشنطن، من نشر الصواريخ البالستية السوفياتية عام 1962، إلى العمليات السرية الأميركية لإسقاط الحكم الشيوعي في كوبا.

اقرأ أيضاً: أحلام الوحدة المسيحية الدينية تبدأ من كوبا الشيوعية 

بعد اعلان كل من باراك أوباما ونظيره الكوبي راول كاسترو في 17 ديسمبر/كانون الأول 2014 عن تسوية إنهاء العداء بين البلدين، كان العام الماضي بمثابة "مرحلة إعدادية" لتطبيع هذه العلاقات. وفقاً لهذا، يحقّ للأميركيين الكوبيين الآن السفر إلى كوبا وإرسال التحويلات المالية، ما زاد عدد الأميركيين المخوّلين السفر إلى كوبا بنسبة 77 في المئة، ليصل إلى 161 ألف أميركي العام الماضي.

كما بدأت إدارة أوباما منح تراخيص عامة غير سياحية للأميركيين للتوجّه إلى الجزيرة في وقت توصل فيه البلدان إلى اتفاق يعيد تشغيل الرحلات الجوية المباشرة للمرة الأولى منذ 50 عاماً، ما يسمح بإطلاق 110 رحلات مباشرة يومياً. في السياق، باشرت الشركات الأميركية استطلاع احتمالات الاستثمار في الجزيرة، ومنها ما وجد ثغرة ودخل الأسواق الكوبية مثل "ماستر كارد" و"نيتفليكس". مع العلم أن كل شيء بدأ مع كوبا بقنوات سرية، أثمرت تسوية بعد 18 شهراً من المفاوضات الشاقة.

قصة الانفتاح بدأت باتصال من أحد الموظفين في مكتب السيناتور الديمقراطي باتريك ليهي، بوزارة الخارجية الأميركية، طالباً نقل السائل المنوي المجمّد للجاسوس الكوبي جيراردو هيرنانديز، الذي تعتقله السلطات الأميركية إلى زوجته في بنما لتحمل منه. بعد تسوية هذا الأمر، سافر ليهي إلى هافانا في فبراير/شباط 2013، باعتباره من أكثر الداعمين لطيّ ملف العداء مع كوبا، وعاد بعدها بانطباعات ساعدته على إقناع إدارة أوباما بتحريك هذا الملف.

عقد البيت الأبيض سلسلة من المحادثات السرية مع النظام الكوبي في العاصمة الكندية أوتاوا بدءاً من يونيو/حزيران 2013. انعكس هذا الأمر أثناء المصافحة بين أوباما وراول كاسترو خلال جنازة رئيس جنوب أفريقيا الراحل نيلسون مانديلا في ديسمبر/كانون الأول 2013، لكن هذه المحادثات لم تحقق اختراقاً ملموساً.

وبعد تنصيب البابا الأرجنتيني فرنسيس على رأس الفاتيكان، في مارس/آذار 2013، ازداد اهتمام الفاتيكان بكسر العزلة عن الجزيرة التي ينتمي معظم سكانها إلى الطائفة الكاثوليكية. كانت كوبا محور الاجتماع بين البابا فرنسيس وأوباما في مارس/آذار 2014 في روما، لا سيما أن البيت الأبيض كان يعلم أن دعم الفاتيكان يساهم في الحصول على تأييد الجالية الكوبية الأميركية لخطوة التطبيع مع هافانا. بعد دخول البابا فرنسيس على الخط، تشجّع البيت الأبيض وتمّ عقد اجتماع بين الوفدين الأميركي والكوبي في الفاتيكان في أكتوبر/تشرين الأول 2014. أما الحافز الرئيسي الثاني في واشنطن، فتجلّى بإجراء تسوية حول الحالة الصحية للمتعاقد مع وزارة الخارجية آلان غروس، الذي أعلن إضراباً عن الطعام عام 2014، بعد خمس سنوات على اعتقاله. دور كنسي كان رئيسياً في المفاوضات السرية، وهو ما يترجمه أوباما فور وصوله إلى هافانا عندما سيتوجه إلى كاتدرائية سان كريستوبال حيث يلتقي رئيس أساقفة أبرشية هافانا الكاردينال خايمه لوكاس اورتيغا الذي أدى دوراً في التقارب بين البلدين.

نقطة التحوّل في المحادثات السرية، ظهرت عند موافقة البيت الأبيض في شهر إبريل/نيسان 2014، على بحث مصير قضية "الكوبيين الخمسة" الذين تم اعتقالهم بتهمة "التجسس على الجالية الكوبية الأميركية" لصالح النظام في هافانا. بالتالي قضت التسوية بإطلاق غروس وجاسوس كوبي، بقي اسمه سرياً، عمل لصالح الاستخبارات الأميركية، واعتقلته السلطات الكوبية لـ20 عاماً. وقد وصف أوباما الجاسوس بأنه "أكثر عملاء الاستخبارات أهمية للولايات المتحدة في كوبا". هذا الجاسوس كشف مجموعة "الكوبيين الخمسة" فاعتقلت السلطات الأميركية ثلاثة منهم لـ 17 عاماً نتيجة هذا الأمر، قبل إطلاق سراحهم ضمن التسوية التي طوت فصل الحرب الباردة في العلاقات الأميركية الكوبية.

مع العلم أن حرب الجواسيس لم تتوقف منذ وصول كاسترو إلى السلطة، وازدادت وتيرتها خلال ثمانينيات القرن الماضي، في عهد الرئيس الراحل رونالد ريغان. في هذا الإطار، أبدى بعض أعضاء الكونغرس الكوبيين الأميركيين، ومن بينهم الساعي إلى كسب ترشيح الحزب الجمهوري تيد كروز، قلقهم من أن يكون فتح السفارة الكوبية في واشنطن، فرصة لإعادة تفعيل عمل الجواسيس الكوبيين. أما اللافت على سبيل المثال فهو أن خوسيه بيريرا، وهو دبلوماسي كوبي طردته واشنطن عام 2003 للاشتباه بقيامه بأعمال تجسس، ترأس الوفد الكوبي المفاوض لتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة.


اقرأ أيضاً: لقاء تاريخي مرتقب بين بابا الفاتيكان وبطريرك الكنيسة الروسية

المساهمون