لو قيل قبل سنوات إن كوبا ستستضيف لقاءً دينياً جامعاً، من المرجّح أن القائل سيُحكم عليه بـ"الجنون" أو "عدم الاتزان العقلي". غير أن ما سيشهده يوم غد الجمعة، تجاوز كل المعايير والاعتبارات المنطقية، سياسياً واجتماعياً. في كوبا، الشيوعية سابقاً، يلتقي رأس الكنيسة الكاثوليكية، فرنسيس، مع أحد أبرز زعماء الكنيسة الأرثوذكسية، بطريرك موسكو كيريل الأول.
يعود الخلاف الكاثوليكي ـ الأرثوذكسي عالمياً، إلى أكثر من ألف عامٍ ونيّف، وتكرّس فعلياً في عام 1054. حصل "الانشقاق الكبير" بين جناحي الكنيسة الرومانية، لأسباب عقائدية وسلطوية ودينية، تتعلّق بسلطات رؤساء الكنائس المحلية في الشرق الأوروبي والشرق الأوسط، والغرب الأوروبي وصولاً إلى شمال أفريقيا. حاول بابا الفاتيكان في حينها، لاون التاسع، رأب الصدع، عن طريق إقناع بطريركية القسطنطينية (اسطنبول حالياً) بالخضوع لسلطة روما، وفقاً لأولويتها بين الكنائس، بحسب التقاليد المسيحية، التي اتُفق عليها في القدس في القرون الأولى للمسيحية، لكن في ظلّ تفسيرات لم يقبل بها الشرقيون، تحديداً لناحية "منح روما بُعداً إلهياً" في سلطتها على جميع الكنائس.
لم يستجب بطريرك القسطنطينية كارولاريوس للنداءات البابوية، كونها لم تُزل هواجسه المتعلقة بصلاحيات كل كنيسة. اشتدّ الصراع مع وفاة لاون التاسع، أثناء إيفاده الكاردينال هومبرتو أوف سيلفا كانديدا، إلى القسطنطينية لإجراء مفاوضات مع البطريرك كارولاريوس. لم يكن الكاردينال هومبرتو سوى أحد المتشددين في كنيسة روما، فعمد بعد انسداد أفق المحادثات مع البطريرك كارولاريوس، إلى وضع وثيقة حرم (وثيقة تمنع زواج أو دفن أو إجراء أي عملية دينية بحق الشخص المعني، فضلاً عن تجريده من سلطاته الدينية) على مذبح كنيسة آيا صوفيا (التي تحوّلت إلى مسجدٍ لأكثر من 400 عام، ثم إلى متحفٍ في عهد مصطفى كمال أتاتورك)، في القسطنطينية، وذلك في 16 يوليو/تموز 1054، قبل إحياء قداس أمام جمع من رجال الدين والمصلّين، وذلك بحق البطريرك كارولاريوس. غادر بعدها الكاردينال هومبرتو تركيا عائداً إلى الفاتيكان، بعدها في 24 يوليو اجتمع السينودس الدائم القسطنطيني، ورشق بالحرم "وثيقة الكفر التي حاول بها رجال جاؤوا من الغرب إلى المدينة التي الله حافظها، أن يبلبلوا الأرثوذكسية".
وقع الخلاف بين الكنيستين وتعمّق، لتنقسم على أثرها أوروبا، التي كانت تعاني من خسائر عسكرية جمّة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ولم تُنجدها تسع حملات صليبية كبرى إلى الشرق الأوسط، بين عامي 1096 و1291، وعشرات الحملات الصغيرة. مع العلم أن إحدى الحملات طاولت القسطنطينية "لإعادتها إلى سلطة روما".
بعد ذلك، بدأت الخلافات تشتدّ داخل كل كنيسة، ما أدى إلى ظهور أفكار عقائدية جديدة، طغى عليها الطابع البروتستانتي، خصوصاً في القرون الوسطى. مع العلم أن الكنائس الشرقية بدت أكثر "مُحافظة" أثناء تلك المرحلة، مع تركيز السلطات المحلية بيد كل منطقة، من دون العودة إلى رأس أعلى شبيه بكاثوليكية روما. القوة الإقناعية لقيادات بروتستانتية كمارتن لوثر وجون كالفن وغيرهما، دفعت الكنيسة الكاثوليكية في روما، إلى اتخاذ إجراءات مضادة، وصلت إلى حدّ إعلان محاكم التفتيش في أوروبا، التي قضى بسببها آلاف المدنيين بسبب انتماءاتهم المذهبية، لم تنتهِ إلا مع نجاح الثورة الفرنسية في عام 1789، التي أدت لاحقاً إلى الحدّ من نفوذ الكنيسة الكاثوليكية أوروبياً.
اقرأ أيضاً خطاب أوباما الأخير: أميركا أقوى أمة في العالم
كما توسعت الكنيسة الكاثوليكية عالمياً أيضاً، عبر دعمها حملات الاستعمار خارج أوروبا، تحديداً مع مرافقة بعثاتها التبشيرية الجيشين الإسباني والبرتغالي، اللذين استعمرا أميركا الوسطى والجنوبية. وهو ما سمح حالياً، في تكوين أكبر تجمّع كاثوليكي في العالم في أميركا الجنوبية.
في المقابل، كانت الكنيسة الأرثوذكسية أكثر حذراً، مع تمسّكها بمناطق نفوذها شرقي أوروبا، والشرق الأوسط، من دون التوسّع على الطريقة الكاثوليكية، إلى حدّ تشكيل الاتحاد السوفييتي (1917 ـ 1991)، الذي هادنته الكنيسة الأرثوذكسية، لاعتبارات عدة، منها "الخوف" من النظام الشيوعي، وصولاً إلى تمرير الخدمات المتبادلة، في سياق همّ مشترك "منع التبشير الكاثوليكي، واستطراداً الغربي، في مجال نفوذ الاتحاد السوفييتي". استمرّ التعاون بين كنيسة موسكو والنظام الروسي الجديد بقيادة فلاديمير بوتين، الذي منحها حرية أكثر من سلفه، وصلت إلى حدّ توظيف عمل الكنيسة الروسية جهودها في خدمة الكرملين.
في القرن العشرين، تحديداً بعد الحربين العالميتين، الأولى (1914 ـ 1918) والثانية (1939 ـ 1945)، بدأت السلطة الدينية المسيحية تضعف أكثر على الصعيد الدنيوي، مع تعدّد الأفكار وانتشار العقائد، فضلاً عن تحوّل مجموعة كبيرة من الدول من النظام الديني إلى النظام المدني، الذي ينصّ على احترام الدينيين للدساتير المدنية. بالتالي لم تعد قرارات الكنيسة تُفرض بالقوة، وهو ما أعاد رسم المشهد العالمي غرباً، بمعزل عن سلطة رجال الدين الذين سعوا، ضمن المساحة الممنوحة لهم، إلى ترسيخ سلطتهم والاستفادة داخلياً فقط.
عليه، وُلد "لاهوت التحرير" في أميركا الجنوبية، الذي حاربه الفاتيكان طويلاً، قبل أن يأتي من رحمه البابا الأرجنتيني فرنسيس في عام 2013، خلفاً لسلفه الألماني بينيديكتوس 16. تحرّك البابا فرنسيس، في الأميركيتين بثبات، فساهم في طيّ صفحة العداء المتبادل بين الولايات المتحدة وكوبا، وقرر مع البطريرك الروسي كيريل، عقد لقاء هو الأول من نوعه منذ عام 1054، بين أعلى رأس كاثوليكي يقود حوالي 1.2 مليار شخص، وأبرز رأس أرثوذكسي يتزعّم 165 مليون شخص (من أصل نحو 260 مليون أرثوذكسي عالمياً).
فكرة اللقاء ورمزيته لافتة. كوبا "رمز الشيوعية". بابا أرجنتيني وبطريرك روسي. الولايات المتحدة على بُعد 144.9 كيلومتراً، بكل ما تحويه من تناقضات إثنية ودينية وعرقية واستهلاكية، وروسيا في البعيد، لن ترفض مثل هذا اللقاء، في ظلّ إعلان وسائل إعلامها في محطات عدة أن "موسكو حامية المسيحيين في الشرق الأوسط". وحدة الكنائس لا تزال غير واردة. وحدها صورة تشي غيفارا في العاصمة الكوبية هافانا ستكون غريبة في هذا المشهد.
اقرأ أيضاً: "البنتاغون" يقترح 37 تعديلاً على القضاء العسكري الأميركي