"تأتون من بعيد": حياة أقوى من الخذلان

"تأتون من بعيد": حياة أقوى من الخذلان

29 ابريل 2019
أمل رمسيس: ترميم ذاكرة وسرد حكايات (فيسبوك)
+ الخط -
حكايةٌ تستدعي رغبةً في المُشاهدة. أشقّاء يلتقون، بعد سنين مديدة من تشتّتٍ في بلدان وذكرياتٍ، فيكتفون بلحظاتٍ تبقى أقلّ بكثيرٍ من أعمار طويلة، لكنها أعمق وأجمل من كلّ قول أو بوح. تشتّت الأشقّاء الثلاثة، في "تأتون من بعيد" (2018، إنتاج مصري لبناني إسباني قطري، 84 دقيقة) للمصرية أمل رمسيس، مرايا ذاكرة ومسارات وتواريخ ومصائر. الذاتيّ الحميميّ مفتوحٌ على محطّات في تاريخ بلدان ومجتمعات. علاقات حبّ، وإنْ يكن الحبّ صافيًا وحقيقيًا وعميقًا، توضع في مرتبة لاحقة للأهمّ، بالنسبة إلى والدين يهيمان في العالم لمناصرة قضايا تُعبّر عمّا يشغل بالهما وهمومهما. أسفارٌ وحروب واقتلاع وتخلٍّ. الهدف "أسمى" من أن يُحاصَر أبٌ في بقعة واحدة، وإنْ يُفتَرض بـ"حصار" كهذا أن يلتزم شرط الأبوّة.

لن يكون سهلاً اختزال المضمون الحكائيّ لوثائقيّ منفلش على جغرافيا تمتد من روسيا إلى فلسطين، ومن إسبانيا إلى لبنان واليونان. للدول هذه أمكنتها في تاريخ وتحوّلات، وفي وجدانٍ وتأمّلات. للأب (نجاتي صدقي) مسارٌ ينبثق من قناعة الأممية، التي تقوده إلى حرب أهلية في إسبانيا، والتي تضعه على تماسٍّ متين مع صراعاتٍ غير منتهية ضد فاشيات وصهيونية تفتك بأناسٍ ومجتمعات. للأم صورة شبه غائبة عن مشهدٍ سينمائيّ، لكن حضورها فاعلٌ في نفسٍ توّاقة إلى مصالحة عميقة مع الذات، فإذا بالشقيقة الكبرى تكشف عن صلابة حضور ومتانة انفعال وبساطة قبول، فالخذلان قاتل، والحياة أقوى.

أصل الحكاية متنوّع المصادر. أمّ "تتخلّى" عن الشقيقة الكبرى كي تلتحق بزوجٍ يريد مواجهة طغيان الصهاينة الساعين إلى احتلال فلسطين. أب يُشارك مقاومي فاشية فرانكو في حربٍ أهلية إسبانية، ويتجوّل في أنحاء متشعّبة في عالم يعيش غليان الانقلابات والتحدّيات. شقيقةٌ تظهر في أثينا. شقيق يظهر على الشاشة مُمسكًا يد شقيقته الكبرى، المُشرفة على نهاية مؤكّدة. الصُور تتلاحق في كتابة نصٍ كأنه مرايا انكشافات واغتسالات. الحكايات تتوالى كأنها صُوَر تتوازن وصُوَر فوتوغرافية تُنبش من أزمنة قديمة، وأخرى تُعيد اكتشاف أمكنة الهجرات والحروب والصدامات والعيش، فتكون الصُوَر الحديثة امتدادًا لصُوَر محفورة في وعي أو ذاكرة أو مخيّلة.

للسينما فضل إعادة سرد الحكاية. التوثيق ـ وإنْ يرتكز على لقاءات مع الأشقّاء الثلاثة، دوليا سعدي وهند وسعيد صدقي ـ يخرج من سرديته التقليدية إلى مساحات أوسع في كشف مخبّأ، أو في محاولة فهم حالة. للانفعالات ظهورٌ متواضع، فصلابة البناء النفسي والجسدي طاغية. صلابة أكبر لدوليا، ولهند أيضًا، فهما الأكثر تواصلًا مع كاميرا (تصوير جوسلين أبي جبرائيل ونجاتي سونمز) تُتقن اختراق المحجوب من دون تصنّع أو تعالٍ، وتعي إخراج المرويات المطلوبة من دون صدام أو قسوة، رغم قسوة المرويات وصدام الشقيقتين بتحدّيات ومواجع. لا ضحايا، فالنصّ منطلقٌ من تجميع حكايات متناثرة في ذكريات أفرادٍ، بعضهم (دوليا سعدي) يبلغ مرحلة أخيرة من عمرٍ مديد، وبعضهم الآخر (هند صدقي) يربط الحكايات والمرويات مضيفًا عليها ما لديه منها أيضًا. أما الشقيق (سعيد صدقي) فمتوارٍ من دون غياب، لأن صُورًا وأقوالّا وبوحًا تكون محورها، قبل ظهوره في خاتمةٍ توحي كأنها ذاهبة إلى انفعالٍ ساذج، لكنها تكشف أجمل لحظاتٍ بين أشقّاء ثلاثة، يضيعون في "مشقّة الأخوّة" المصنوعة بتصاريف الحياة، ويتشتّتون في جغرافيا تتباعد من دون أن يتباعد شوقٌ مخفيّ إلى لقاء يتحقّق، وإنْ في انتهاء أزمنةٍ.

صناعة "تأتون من بعيد" مرتكزة على دقّة في ترتيب اللقطات والمرويات ضمن سياق حكائيّ يبوح أكثر مما يقول. البوح ذاتيّ، لذا هو أجمل. البوح يتحرّر من ثقل المرويات التاريخية من دون أن يتغاضى عنها. علاقة أمل رمسيس بالأشقّاء الثلاثة، المبتدئة بلقاء مع هند يفتح أبوابًا كثيرة أمام مخرجة مهمومة بالتاريخ والذكريات، منبثقة (العلاقة) من توازنٍ انفعالي وثقافي وتأمّلي، يُصبح نواة البناء السرديّ برمّته. التعابير المتداولة في تحليل جمالية فيلمٍ وثائقي مُكرّرة ومعروفة: الثقة بين المخرج وشخصياته؛ تمكّن الأول من "استدراج" الشخصيات المختارة إلى مواقع يريدها، من دون صدام؛ نبش التاريخ بعيدًا عن مفهوم دراسيّ أو تحليلي، بل انطلاقًا من حميمية ذات وتأمّلات؛ صبر مديد يجعل الشخصية ومروياتها جزءًا من يوميات مخرج/ مخرجة وهمومه/ همومها.

هذا كلّه معروف. هذا أساسيّ في "تأتون من بعيد". هذا مُثير لمتعة مُشاهدةٍ تتجوّل في أروقة أزمنة وأمكنة، مانعةً إياها (المُشاهدة) من مللٍ أو تعب، فهي بديعة في إثارة حماسة أكبر وأعمق مع كل لقطة أو حكاية أو وجه أو نبرة أو صورة أو بوح أو وجع أو رغبة أو إصرارٍ على متابعة العيش.

أكثر من ذلك: كيف يُمكن لشقيقتين، تلتقيان ذات لحظة بعد سنين مديدة، من أن تتواصل إحداهما مع الأخرى، واللغة عائقٌ أساسيّ؟ دوليا غير عارفة بالعربية أو الإنكليزية. هند غير عارفة بالروسية. عمر طويل من فراق غير مقصود. التواصل بحدّ ذاته منبثق من أولوية المشترك بينهما، وإنْ يكن المشترك قليلًا. وجود سعيد معهما دافعٌ إلى بعض ذكرياتٍ عن بعض لقاءات قديمة. اللقطات الأخيرة حكاية مستقلّة. الحوارات بين الأشقّاء الثلاثة حكاية مستقلّة أيضاً. "تأتون من بعيد" حكايات وحكايات مفتوحة على الحساسية الذاتية في عالم متغيّر.

أمل رمسيس جزءٌ من هذا كلّه، لا لكونها مخرجة وكاتبة ومُولِّفة، بل لانغماسها الذاتي هي أيضًا في تفاصيل ومحطّات وهواجس، تتوزّع على ثقافة مواجهة التحدّيات التي تصنعها فاشيات وصهيونية، أو التي تنبثق من قرارات تُتخّذ في لحظات مصيرية. التورّط لن يكون سينمائيًا فقط، وهذا وحده كافٍ فأمل رمسيس تصنع فيلمًا يمتلك حيويته الجمالية في اشتغال بصريّ حسّاس وواقعي ومتين البُنية الداخلية والسردية. التورّط متأتٍ أيضًا من التزام ثقافي وتأمّلي لأمل رمسيس بمحطات تاريخية، وبشؤون تُثير لديها تأمّلًا وبحثًا واشتغالًا. هذا يظهر في علاقة أمل رمسيس بالأشقّاء الثلاثة، وبحكايات نجاتي صدقي، وبتاريخ عائلة وأفراد، وبهموم فكرية وثقافية ونضالية لأبٍ يريد تحسين العالم. لكن العالم غير معنيّ بتحسين حاله، كما يبدو، فإذا بـ"تأتون من بعيد" يصنع لمسة شفّافة وجميلة عن أفراد يُشكّلون فرقًا، ويذهبون إلى أقاصي الأرض كي يرسموا ملامح ذات وحالات وتأمّلات.


(*) يُعرض "تأتون من بعيد" الساعة السادسة مساء اليوم الإثنين، 29 إبريل/ نيسان 2019، في "دار النمر" (بيروت)، في إطار النسخة اللبنانية الأولى من "قافلة بين سينمائيات".

المساهمون