"بي بي سي".. رواية إسرائيل أولاً ودائماً (2-2)

"بي بي سي".. رواية إسرائيل أولاً ودائماً (2-2)

05 ديسمبر 2014

تظاهرة في لندن ضد العدوان الإسرائيلي على غزة (9أغسطس/2014/Getty)

+ الخط -

بعد توقف العدوان، أكد فيلو، في أكثر من مقال وندوة، تمسك الـ"بي بي سي" بعناصر ومكونات التغطيات السابقة المنحازة وغياب الدقة والموضوعية، وغياب التناول بعمق. مخالفة إسرائيل قائمة تطول من القوانين والحقوق، حيث يتكرر، إلى حد كبير، تجنب التوقف ملياً عند ظلم المواطنين الفلسطينيين ومعاناتهم، ومن أين جاءوا، لأن المواجهة بين "حماس وإسرائيل"، وليس، بالطبع، مع فلسطينيين، معظمهم من اللاجئين، وضد من  احتلت بلادهم، ولأن "إسرائيل في حرب مع غزة، التي أعلنت الحرب علينا"، وفق شيمون بيريز، رئيس إسرائيل السابق.

وقت قليل لناطقين فلسطينيين، أو معلقين، يمكنهم، بوضوح، عرض الحال الفلسطيني. وقت كثير للخبراء، ومعظمهم يهود صهاينة، ولناطقين إسرائيليين عسكريين، يقدمون بمظهر عسكري "مهيب"، في مشاهد تبث في الأقسام الإنجليزية والقسم العربي، من دون مراعاة لحساسية المشاهد العربي، ولا غرابة، فهناك سياسة تحريرية واحدة في الهيئة، تمرر من الأعلى. يقال، في هذه الأيام، إن صهاينة عينوا في السنتين الأخيرتين، يتولون حراستها وفرضها، أهمهم جيمس بيرنل الذي ترأس، سابقاً، جمعية أصدقاء إسرائيل في حزب العمال، مسؤولاً للسياسات الاستراتيجية في الهيئة، إضافة إلى مسؤوليات أخرى، تجعله الأهم في "بي بي سي".
أوصاف وتغطيات قاصرة
ويلاحظ المستمع، أخيراً، تفادي "بي بي سي" وصف الأراضي الفلسطينية بأنها الأراضي المحتلة. يقال، أحياناً، إنها أراض "محتلة"، وكثيراً ما لا يتم مواجهة إسرائيليين بموقف الشرعية الدولية، حينما يقولون إن الضفة أراض "متنازع عليها"، أو أراضٍ يدّعي الفلسطينيون أنها لهم. وتصبح المستوطنات حول القدس مناطق مجاورة. يقول مذيعو "بي بي سي" أراضٍ تم "الإستيلاء" عليها، بدل استخدام كلمة احتلالها التي تستخدم في موقع آخر، للقول إن "الأردن كان يحتل الضفة"، كما هو وارد في شروح "بي بي سي" خلفيات الصراع، أوصى تقرير توماس بضرورة إحاطة المستمع بها، وها هي تستخدم لترويج نصوص إسرائيلية، كما هو مثبت ، على موقع الهيئة، حتى مطلع الشهر الحالي.

مثال آخر على انحياز "بي بي سي" الصارخ لإسرائيل، تمثل في تغطية قضية الأسرى. ووفق رسالةٍ، بعثتها منظمة "إنمايد" إلى مدير الهيئة، تجاهلت "بي بي سي" إضراب سامر العيساوي وزملائه في السجن، على الرغم من مرور أكثر من ثلاثة أشهر عليه، وتحول قضية الأسرى حركة شعبية فلسطينية عارمة، على عكس التغطية الكثيفة والخاصة، والمتواصلة للسجين الإسرائيلي السابق، جلعاد شاليط، في أثناء اعتقاله، وحتى بعد الإفراج عنه. وحسب بحثٍ، أعدّته "إنمايد"، فقد نشرت "بي بي سي" 1120 قصة إخبارية، منها 50 تقريراً، إثر الإفراج عن شاليط، وتقريراً خاصاً، بمناسبة مرور عام على الإفراج عنه تناول "معاناته والتأثيرات النفسية وجهود تأقلمه مجدداً"، وزياراته واجتماعاته، والمسلسل التلفزيوني الذي يجري تصويره عنه في الولايات المتحدة.
عبء الأيديولوجيا وأجندة السياسة
تتحكم في السياسة الإعلامية لـ"بي بي سي" أيديولوجية، تدافع عن مصالح بريطانيا والغرب، وأصبحت أكثر ثقلاً، في السنوات الأخيرة، وتمرر عبر آليات بيروقراطية، وتعليمات لاستخدام مصطلحات ونصوص محددة، ويزداد الأمر حساسيةً، عندما يتعلق الأمر بتغطية قضايا الشرق الأوسط، وخصوصاً ما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، وكلما طال أمد هذا الصراع.

يجري "تدريب العاملين في هذا القسم، كما لا يحدث في أي قسم آخر"، كما يقول البروفسور ليون باركو من جامعة جون كوبنغ في السويد، في دراسة عن تغطية "بي بي سي" و"الجزيرة" الإخبارية، ويتم إحاطتهم "بسياسة الهيئة، وتزويدهم بقواعد موجهة، تتضمن تعليمات ومصطلحات، تحدد شكل النص ومحتواه".

تصبح المسائل أكثر سوءاً في القسم العربي، لأن مهمته أصبحت محصورة ومحددة، طاقم من الفنيين والإداريين والمحررين، ينفذون سياسةً، لا يشاركون في صنعها، ولا تحترم مشاعرهم، وفي ظل تآكل الهامش الذي كان متوفراً لنخب من المذيعين العرب، في أوقات مبكرة من تاريخ الهيئة. وقد أصبح، الآن، ما يسمي الالتزام بـ"التوازن والدقة" المبرر لاستضافة، أو بالأحرى "إقامة"، ناطقين إسرائيليين معظم الوقت. وهل يمكن التوازن بين معتدٍ ومعتدى عليه، في ظل غياب التمحيص وخضوع العاملين لآليات رقابة ذاتية مباشرة وغير مباشرة يعرفها الصحافي؟

هل بإمكان العرب العاملين في "بي بي سي" التأثير في الناتج الإخباري الذي يشكل معظم الناتج الإخباري، وساعات البث القابل للزيادة، في أوقات الأزمات؟

نعم، إلى حدٍّ ما في المقابلات وبرامج الحوار ورسائل المراسلين، لكن هذا التأثير وضرورة تضمين العنصر المحلي في الرسالة الإعلامية يقترب من الصفر لدى إعداد نشرات الأخبار التي تعتبر ناقل الرسالة والأجندة. تأتي الأخبار وفق قنوات معينة، وتسلسل هرمي، معتمدة لدى الهيئة، تصل إلى المحرر الذي يمررها، من دون صلاحية لتغيير يؤثر في جوهر النص.
الأجندة عندما تبدو غريبة
آلية معيّنة تحدد أجندة المحرر أمام ناظريه في جهاز الحاسوب، وحلت مكان الرقابة المباشرة لوزارة الخارجية التي استمرت سنوات طويلة مبكراً، أيام بوش هاوس المقر السابق للهيئة، عبر حضور مباشر، وطاولة مخصصة لممثل الحكومة قرب قاعة التحرير. يعود إلى هذه الآلية ترتيب الأخبار، وفق أجندة سياسية، تظن "بي بي سي" أنها قادرة، إلى الآن، كما في السابق، على فرضها، وتبدو غريبة وهجينة  وخارج السياق أحياناً، لمشاهدين خبراء في اختبار وقراءة النصوص والمقارنة وتبين الغايات، كما يشير إلى ذلك، على سبيل المثال، نشر "بي بي سي" رواية المخابرات الإسرائيلية "شين بيت" عن اعتقال مجموعة "متطرفين" من "حماس" تضم 30 شخصاً، حيث يشك معظم المستمعين، خصوصاً العرب في صدق الرواية، وفشل ال"بي بي سي" في التخفيف من حجم الشكوك الثقيلة بصدقية مصدر كهذا، عبر ذكر أي شيء عن رواية الطرف الاخر.

كثيراً، أيضاً، ما يلاحظ المستمع والمشاهد ركاكة اللغة العربية وغرابة النص، أو غموضه، والناتج، بالطبع، عن ما يسمى بالدقة، أو الأصح تعليمات الترجمة الحرفية، لما يقره مسؤولو التحرير من أخبار وتقارير، في القسم الانجليزي.

ثمة جدل حاد وخلاف متواصل بشأن دور الهيئة شبه الرسمية التي يمولها المواطن البريطاني، قاد إلى تغييرات هيكلية تقشفية، وإلى تبنّي سياساتٍ، ألقت بالهيئة وسياساتها التقليدية، بما في ذلك التزامها بمقاييس، وضعتها لكي تخدم الناس، في مهب الريح، وأحاطتها بشكوك لم تعتدها في عقود مبكرة.

طال هذا الحال كل المؤسسة الضخمة والمترهلة، وأصاب  القسم العربي الذي أصبح آلة تفريخ لفنيين وإداريين ومترجمين وصحافيين، كما يظهر نزوح هؤلاء المتواصل، والكثيف أحياناً، مع ظهور فضائىة جديدة، أو إذا ما لاحت فرصة مادية أفضل، أو حتى لا نظلم آخرين كثراً، هرباً في بعض من أسبابه، من تهم وعبء العمل في مؤسسة أيديولوجية هرمة، شديدة البيروقراطية والرقابة، لا زالت، كما أعتقد، تدس السم في الدسم الذي أصبح نادراً، ونحن لا نسمع، هذه الأيام، سوى تقارير الموت، بالعشرات يومياً، من عواصم العرب، وتصر على مواصلة ا الانحياز لإسرائيل، كيان محتل غاصب وعدواني، وأهم أسباب بلائنا الراهن وضد مستقبل الجميع.

EE3DB56E-644D-4BAF-AC50-8DEE70FD1A57
أحمد سيف

صحافي وباحث فلسطيني، عمل في الاعلام الفلسطيني في بيروت وقبرص، ودرَّس في جامعة بيرزيت مادة الاعلام، وأسهم في الكتابة حول القضية الفلسطينية في غير منبر عربي.