"الساعة الحالكة" لجو رايت: سِحْر أداء وتصوير

"الساعة الحالكة" لجو رايت: سِحْر أداء وتصوير

14 مارس 2018
غاري أولدمان: أفضل ممثل عام 2017 (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
عام 2017، أُنجز فيلمان يتناولان معركة "دانكرك" (شمال فرنسا)، التي حوصر فيها نحو 400 ألف جندي بريطاني، في الحرب العالمية الثانية، والمنتهية بإنقاذ غالبيتهم، بفضل سفن مدنية وقوارب صيد محلية، تولّى أصحابها إعادتهم إلى بلدهم، في لحظة مرتبكة بين هزيمة حربية وقرار انسحاب، وانتصار متعلّق بإنقاذ حيوات عشرات آلاف الجنود.
الأول، "دانكرك" لكريستوفر نولان، تناول المعركة من وجهة نظر حربية وميدانية. الثاني، "الساعة الحالكة" (Darkest Hour) لجو رايت، يتناول شهرًا من حياة ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني في تلك الحرب، ويسرد أحوال المعركة في الشهر نفسه، المحتدم والعصيب، من وجهه نظر سياسية.
هذا لافتٌ للانتباه، ويطرح ملاحظة عن المزاج العام في السينما، الذي يَميل إلى سرد قصص "نجاة الأمة" في زمن القيادة المجنونة، أكثر من ميله إلى قصص الانتصار الصريح، كانعكاسٍ، ربما، لشكل العالم اليوم.

بعيدًا عن "دانكرك"، يدور "الساعة الحالكة"، تحديدًا، حول فكرة "النجاة" تلك، وإمكانية الحفاظ على تماسك الأمة وهويتها، وأخلاقياتها ربما، في أوقات الصراع واختلال موازين القوى. يبدأ الفيلم بانتصاراتٍ ألمانية متتالية في دول أوروبية، وبالاستعداد لغزو بلجيكا بـ3 ملايين جندي نازي، ما يعني أن المملكة البريطانية لم تعد بعيدة، أبدًا، عن الغزو الألماني. في ذلك الوقت، يُعيَّن ونستون تشرشل رئيسًا للوزراء. مع الضغوط المتتالية التي يصنعها غزو بلجيكا، ومحاصرة الجنود في "دانكرك"، يُطرح خياران لا ثالث لهما، يدور حولهما الفيلم: هل نستسلم ونتفاوض مع أدولف هتلر، الذي سيفرض شروطه على المملكة، ونخرج بسلام يضيّع هوية الأمة إلى الأبد؟ أو نقاوم ونحارب، ونحن الطرف الأضعف، فنخاطر بحيوات مئات آلاف الجنود الشباب، أو ربما بملايين منهم، في حربٍ تبدو، في تلك اللحظة، خاسرة؟
جو رايت صانعُ سينما، ذو حسّ كلاسيكي. تدور أحداث معظم أفلامه في أزمنة سابقة. بعضها يتناول زمن الحرب العالمية الثانية نفسها، لكن بشكلٍ مختلف، كما في "كفّارة" (2007)؛ وبعضها الآخر مُقتَبَس عن روايات جين أوستن وليو تولستوي. لذا، هو مناسبٌ جدًا، فنيًا، لإخراج فيلمٍ كـ"الساعة الحالكة"، يعتني فيه بالتفاصيل كلّها، الخاصّة بالصورة السينمائية، كديكور وملابس ومكياج، ويمنح ـ في عملٍ تدور غالبية مشاهده داخل غرف مغلقة ـ مدير تصويره برونو ديلبونيل فرصة قيادة الدفة، جاعلاً التكوين البصري واستخدام الضوء وخلق قتامة ورمادية دائمة أساسية لالتقاط صورة "جميلة ولافتة ومعبّرة"، داخل الحدود الضيّقة المتاحة، لتكون العناصر البصرية تلك الأكثر تقديرًا وجودةً، فينال 6 ترشيحات لـ"أوسكار" (2018)، في فئات أفضل فيلم (للإنتاج) وأفضل ممثل (غاري أولدمان)، وأفضل ماكياج (كازوهيرو تسوجي)، وأفضل ديكورات (ساره غرينوود وكاتي سبنسر)، وأفضل أزياء (جاكلين دورّان) وأفضل تصوير؛ فاز باثنين منها فقط، في فئتي أفضل ممثل وأفضل ماكياج.
لكنْ، هناك عيوب عديدة في بناء السيناريو، أبرزها التقليدية الشديدة في استخدام خطابات ونستون تشرشل وأثرها، ولحظات التطوّر والضغط الدرامي التي تحدث بأشكالٍ متوقّعة، وكون اللحظة ـ التي يُفترَض بها أن تكون مفصلاً أهمّ في العمل، وهي متعلّقة بقرار الاستمرار في الحرب أو الاستسلام ـ يتمّ القفز عليها، وتمريرها في مشهدٍ ساذج ومستهلك ومباشر، في الـ"مترو"، حيث يستطلع الناس حول آرائهم برئيس وزراء بلدهم بخصوص الحرب وتحدّي النازيين، والذي ينتهي عند طفل يتحدّث معه عن "الأمة" و"الهوية"، في رمزية ضعيفة (فعلاً) عن فكرة الرهان على المستقبل.
لكن، رغم العيوب المتفرّقة في النصّ، أُنقِذ الفيلم لسببين: الأول، بفضل العناية الشديدة بالصورة وعناصرها، ومحاولة تخفيف تقليدية السيناريو بحِيَلٍ وألاعيب، ككتابة التواريخ على الشاشة الكبيرة. والثاني، وهو الأهم، الذي يصنع قيمة الفيلم وجاذبيته: أداء غاري أولدمان. فرغم أن تأدية شخصياتٍ مشهورة تنال إعجاب الجمهور، وتقييم الأداء يكون أسهل عند مقارنته مع الصورة الأصل، إلا أن أولدمان يذهب ـ هنا ـ إلى ما هو أبعد. صحيحٌ أن أداءه في النصف الأول من الفيلم قائمٌ على محاكاة جسدية وصوتية لتشرشل، وخلق لزمات مرتبطة بذكائه، وسرعة بديهته، وتعبيراته الغاضبة، ولكنته اللافتة؛ لكن الأمر يتطوّر بشدة، في النصف الثاني، مع احتدام الصراع وزيادة الضغط، فيذهب أولدمان إلى ما هو أبعد من تأدية الدور، متوحِّدًا تمامًا مع ثقل أنه رجل يتوجّب عليه أخذ قرار مرتبط بأرواح ملايين الناس.
لعل لحظة "الهمهمة" الغاضبة والعاجزة، التي يتحدّث بها أمام صورة لهتلر منشورة في جريدة، هي أفضل لحظة أدائية لممثل عام 2017، إذْ يعبِّر بشدّة عن ثِقل الوضع وأثر الهزيمة. يتألّق، أيضًا، في المشاهد الحوارية الحادة، التي يدافع فيها عن وجهة نظره بشأن هوية بريطانيا، في وقت يبدو موقفه ضعيفًا أمام دعاوى الانسحاب، خصوصًا في مشهدين ممتازين أمام الممثل البريطاني ستيفن ديلاني، الذي خاض مباراة أدائية رائعة مع أولدمان.
أما نتيجة هذا كلّه فكامنةٌ في فيلمٍ جيّد وجاذبٍ، رغم مشاكل درامية عديدة.

دلالات

المساهمون