"الإيراروسية"... والمواجهة المستمرة

"الإيراروسية"... والمواجهة المستمرة

18 فبراير 2016
+ الخط -
منذ وصول الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى سُدة الرئاسة للمرة الأولى في انتخابات عام 2000، وهو يتملكه الطموح نحو استعادة مجد الاتحاد السوفييتي السابق والإمبراطورية القيصرية وقوتهما على حد سواء، وقد انضم إلى جانب مثقفين ومسؤولين روس كثيرين بالتبشير بـ "الأوراسية"، باعتبارها خطوة حقيقية في سياق التطور الثقافي والاقتصادي والسياسي لشعوبٍ عديدة في آسيا وأوروبا، والتي تجمعهم مع روسيا جغرافيا طبيعية مشتركة، بالاعتماد على "التعقيد المزهر" أو التلاقح الثقافي بين تلك الشعوب عبر الوسيط الروسي. وهي، في الأصل، نظرية جيوسياسية وضعها أستاذ العلاقات الدولية الأميركي، بيل سبيكمان، عام 1944، وتُعد حالياً من أبرز تيارات الفكر الاجتماعي والسياسي في روسيا ودول آسيا الوسطى.
في فضاء الحلم "الأوراسي" وأحلام بوتين بالقيصرية الجديدة، باتت روسيا تلعب دوراً مشاكساً وعنيداً مع الغرب، وتمارس سياسات تسلطية، وأحياناً عدوانية، كما حصل في جورجيا منذ سنوات. وفي أوكرانيا، بعد ضم شبه جزيرة القرم في الأمس القريب، واليوم في سورية. كما تسعى، على الدوام، لمد نفوذها في العالم، عبر ربط التكتلات السياسية والاقتصادية التي شكّلتها بنفسها، أو ضمن عضويتها ببعضها، عبر دعوتهم المستمرة إلى إقامة شراكات اقتصادية كالتي تنادي بإقامتها حالياً بين الاتحاد الأوراسي ومنظمة شنغهاي وتكتل "آسيان". وعلى الرغم من العلاقات الشائكة، والمعقدة إلى حد بعيد، والتي شهدت تاريخياً محطات اصطدام وتوتر كثيرة، وجدت روسيا في إيران حليفاً استراتيجياً، تساعدها في ضمان الاستقرار في آسيا الوسطى، الحديقة الخلفية لروسيا، فضلاً عن تلاقي المصالح في منع سقوط نظام الأسد في سورية، وحماية منفذها الأخير على المياه الدافئة، خصوصاً بعد الضربة الموجعة التي تلقتها روسيا على يد "الناتو" في إسقاط نظام القذافي في ليبيا، ثم خلع حليفها في اليمن، علي عبد الله صالح، على يد ثوار اليمن.
بفعل المصالح المشتركة، وتلاقي الطموحات الإمبراطورية الفارسية مع الطموحات الروسية، انتقلت العلاقة بين الطرفين من مجالات الطاقة والصناعات الثقيلة، فضلا عن توقيع العقود لشراء السلاح الروسي وبناء المفاعلات النووية، إلى تحالف استراتيجي، هدفه الرئيس تقويض إرادة التحرر لدى شعوب المنطقة، وإعادة تشكيل دولها وخارطتها، بما يضمن لهما التحكم بمصائر هذه الدول، ومقدراتها الغنية ومواقعها الإستراتيجية. وتتم هذه العملية المركزة لتحقيق ذلك عبر تبادل الأدوار والمهام فيما بينهما، ففي الملف اليمني، دعمت إيران انقلاب جماعة الحوثيين على السلطة الشرعية، وقدمت لهم المال والسلاح والرجال، حتى يتمكنوا من السيطرة على البلاد بأسرها، وإجهاض الثورة اليمنية، وأيضاً؛ تهديد أمن المملكة العربية السعودية. بدورها، أعاقت روسيا وصول الملف اليمني إلى مجلس الأمن في أثناء الثورة اليمنية ضد الرئيس المخلوع، علي عبدالله صالح، ثم بعد انقلاب الحوثيين، قامت بحمل وجهة النظر
الإيرانية، وفرضها على قرارات الأمم المتحدة، كما عرقلت مشروع القرار الخليجي حول اليمن، تحت الفصل السابع في مجلس الأمن (10 إبريل/نيسان 2015). أما في سورية، فالتنسيق القائم بينهما يتخذ شكلاً مباشراً وعميقاً للغاية، وقدم الطرفان للنظام السوري الوحشي دعماً غير محدود ميدانياً وسياسياً. برز الدور الإيراني عبر استقدام آلاف العناصر من المليشيات الشيعية من مختلف البلدان، لتشارك نظام الأسد في قمع الثورة، وقتل الشعب السوري، وساهمت بذلك في إشعال الصراع الطائفي في البلاد، كما فعلت في العراق، وهيئة المناخ لظهور وانتشار الأيديولوجية المتطرفة في المنطقة، أما روسيا فقد أعاقت، إلى جانب الصين، عدة قرارات في مجلس الأمن، تدين جرائم النظام السوري، وحالت دون محاكمته أمام المحكمة الجنائية الدولية، فضلاً عن تخليص النظام من الرد الأميركي، حول استخدامه السلاح الكيماوي، وتسليم ترسانته الكيماوية وائتلافها، ولم يقتصر دورها عند هذا الحد، فإلى جانب ذلك، قدمت روسيا للنظام السوري دعماً عسكرياً واستخباراتياً، كما تبنت وروّجت شعار محاربة الإرهاب الذي يستخدمه النظام السوري، للتغطية على جرائمه المروعة بحق أبناء شعبه. وتحت تلك الذريعة، شنت روسيا أيضاً عدواناً على الشعب السوري، وبدأت طائراتها بقصف المدن والقرى السورية وارتكاب المجازر إلى جانب جيش النظام والمليشيات الإيرانية.
على مسار الحل السياسي، تعمل روسيا على توسيع التصدع والخلافات داخل الائتلاف السوري المعارض، وتدعم جهات معارضة أقرب للنظام منها إلى مصلحة الثورة السورية، كما تسعى بإصرار؛ إلى إفراغ بيان جنيف1 من محتواه وحرف المسار التفاوضي المتعثر برعاية دولية في جنيف 3 عن تحقيق أماني الشعب السوري في الخلاص من النظام، ومحاسبته على جرائمه، عبر محاولة فرض شخصيات إشكالية على الوفد السوري المعارض، بتدخل سافر، كما تعمل على استبدال أجندة المفاوضات من البحث في تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات، كما تنص عليها القرارات الدولية بشأن سورية، إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، والتركيز على محاربة الإرهاب، وهي تماماً الرؤية الإيرانية القديمة. ولكن، بنبرة روسية جديدة.
وبالتزامن، مع خطتها على المسار السياسي، كثفت ميدانياً قصفها الجوي الوحشي على مناطق المعارضة السورية، في الأيام القليلة الماضية، بغرض فرض سيناريو جديد على الأرض، والذي مكّن النظام السوري والمليشيات الإيرانية من تحقيق تقدم ميداني عجزت عن إدراكه سنوات، فضلاً أن قصفها العنيف المدنيين يُساهم في تهجير من تبقوا من السوريين إلى خارج بلادهم، ويفرض خياراً وحيداً أمامهم، إما الموت أو اللحاق بمن سبقهم، والهرب إلى المجهول.
بطبيعة الحال؛ مهدت الانكفاءة الأميركية والسياسة المترددة والكارثية لإدارة الرئيس أوباما، في السنوات الماضية، لبروز إيران لاعباً رئيسياً في ملفات عديدة في المنطقة، خصوصاً بعد الاتفاق النووي، كما أفسحت المجال واسعاً لروسيا، لكي تقوم بدور عرّابة المنطقة، بغض النظر عن أمن دولها وأماني شعوبها، ومنحت التحالف "الإيراروسي" حرية التدخل في شؤون دول عديدة، وفرض الوصاية على سورية، ولعل تصريحات مسؤولين إيرانيين في كل حين وآخر، عن تحكمهم بعدد من العواصم العربية ليست مجرد تصريحات مغرورة ومستفزة، بل رسائل إغراء موجهة إلى الشريك الروسي بأن مصالحها في تلك الدول تمر عبرها، بهدف تمتين هذا التحالف.
وبخلاف النظرية "الأوراسّية" المبنية على "التلاقح الثقافي"، لتحقيق تحالف كوني مزهر للشعوب المنضوية فيه، جاء التحالف "الإيراروسي" مبنياً على "تلاقح المصالح" والأحلام الإمبراطورية القديمة، تسحق بأقدامها أماني الشعوب المحاصرة ضمن أسوارها بالحديد والنار، بيد أن "الحزم" السعودي استبق هذه النهاية المأساوية في اليمن، ونجح في تحريرها من تلك الأسوار، وإلى جانب التحالف العربي، قامت بتشكيل تحالف إسلامي واسع، ترافقه حركة دبلوماسية وسياسية نشطة للغاية، تصب في التحضير للمواجهة الجارية مع الإرهاب السياسي والعسكري التي تمارسه إيران وحلفاؤها إلى جانب تنظيم الدولة، ومن الواضح في سورية أن المواجهة لم تحسم بعد في تصحيح المسار السياسي المنحرف حالياً، ويبدو أن الكلمة الفصل في ذلك ستأتي مثل اليمن، من الميدان.