البراق النبوي.. روايات متعدّدة صاغتها مخيّلة الفنان

البراق النبوي.. روايات متعدّدة صاغتها مخيّلة الفنان

15 مايو 2015
احدى رسومات البراق العربية (Getty)
+ الخط -
استدعت واقعة الإسراء والمعراج، منذ اليوم الأول، فكرة تكذيب الرسالة أو تصديقها، وكانت المقولة المنسوبة لأبي بكر الصديق: "إن كان قال فقد صدق"، تشير إلى ما كان يعتمل في النفوس من هذه الرحلة منذ اليوم التالي لها، ما بين تكذيب لها أو تخيّل مناسب لطبيعتها.

وتوقف كثير من المفسرين والمفكرين والأدباء قديماً وحديثاً أمام الحدث عموماً وتفاصيله، ومحاولة تفسيره تفسيراً علمياً عقلانياً مرة، أو غيبيّاً روحيّاً مرات ومرات! وهل تمت الرحلة بالروح فقط، أي بمثابة "رؤيا"، أم كانت بالجسد والروح معاً؟

ماهية "البُراق" الذي مثّل وسيلة النقل النبوية في الرحلة، شغلَت الجميع؛ فذهبوا في أمره مذاهب شتى. فالنصوص المشهورة في حادثة المعراج تحكي أن البراق "دابةٌ أبيضٌ دون البغل وفوق الحمار يقع خطوه عند طرفه". لكنه في الموروث الشعبي، كان مركباً لإبراهيم ـ عليه السلام ـ عندما كان يزور زوجته هاجر وابنه إسماعيل. وكان النبي إبراهيم يعيش في فلسطين مع زوجته سارة، فكان البراق ينقله صباحاً إلى مكة لرؤية عائلته ويعود به مساءً إلى فلسطين. وقال بعضهم إنها دابة كل الأنبياء مستندين إلى رواية أن جبريل ربطها في الحلقة التي كان يربط فيها الأنبياء من قبل.

روايات متعددة لصورة البراق استدعتها الرغبات الشعبية في عشقها للتفاصيل، وأسهمت في صناعتها وترويجها، يمكن أن نحصل عليها بسهولة في حكايات القصاصين الشعبيين ومطربي السيرة. وفي "تاريخ بغداد" وفي غيره روايات متقاربة تقول: إن البراق دابة، وجهها كوجه الإنسان، وخدها كخد الفرس، وعرفها من لؤلؤ ممشوط، وأذناها زبرجديتان خضراوان، وعيناها مثل كوكب الزهرة توقدان مثل النجمين المضيئين لهما شعاع مثل شعاع الشمس، بلقاء محجلة تضيء مرة وتطفئ مرة أخرى، ينحدر من نحرها مثل الجمان، مضطربة في الخلق، أذناها مثل البقرة، طولية اليدين والرجلين، وأظلافها كأظلاف البقر من زبرجد أخضر، تجد في مسيرها الريح، وهي مثل السحابة، لها نفس كنفس الآدميين، تسمع الكلام وتفهمه، وهي فوق الحمار ودون البغل". ومثلها العديد من الروايات المشهورة الموضوعة التي تجد لها سبيلاً ممهّداً في الفن الشعبي.

ويرتبط بدابة البراق حائط البراق، وهو الحائط الغربي للحرم المقدسي. والمسلمون يقولون إن جبريل قام بربط البراق بهذا الحائط ليلة الإسراء، ويسميه اليهود "حائط المبكى"، ويعتبرونه الأثر الوحيد المتبقي من هيكل سليمان.

في جانب التحليل للحادثة ومحاولة "عصرنتها"، نصادف آراء متعددة، من بينها رأي مصطفى صادق الرافعي، وهو من الأدباء المحافظين، يقول: "لم يوصف البراق بأنه دابة إلا رمزاً، إذ لا يأتي للعرب أن يفهموا ما يُراد منه. وعندنا أنه سمي البراق من البرق، وما البرق إلا الكهربائية، وهذا هو المراد منه. فتلك قوة كهربائية متى نَبَضت جمعت أول العالَم بآخره. وهذه هي الحكمة في أن آية الإسراء لم تذكر أنه كان محمولاً على شيء؛ إذ لم يكن محمولاً إلا على الروح الأثير".

في الفن التشكيلي:
الأوصاف العجيبة لدابة "البراق" كانت منطلقاً مناسباً للخيال الشعبي المولع بالغرائبية التي تمتزج في حالة البراق بالقداسة أيضاً، وهو ما انعكس على الفنون عموماً والفن التشكيلي خاصة.

اهتم المسلمون الفرس كثيراً بتصوير الإنسان والكائنات الحية، ولم يلتفتوا إلى تحريمه الذي سيطر على الجناح الغربي للعالم الإسلامي، بل تجاوزوا الأمر وقاموا بتخيّل شكل الأنبياء والملائكة والحور العين وقاموا برسمهم جميعاً.

المخطوطات القديمة والمكتبات العالمية احتفظت بنماذج متعددة من تلك الرسوم.
يحتفظ متحف المتروبوليتان بلوحة يرجع تاريخها إلى سنة 1514 ميلادية، ضمن مخطوطة كتاب بستان سعدي، وهي لوحة رسمت في مدينة بخارى في أوزباكستان، وتصور النبيّ ممتطياً "البراق" أثناء رحلة الإسراء والمعراج.

يبدو المشهد الثاني من الرحلة مدوناً في مخطوطة "سيرة محمد" التي هي مخطوطة أفغانية تعود إلى سنة 1436، ومحفوظة في باريس (The Bibliotheque Nationale, paris)، حيث تصوّر اللوحة الرسولَ على ظهر البراق، وبجانبه جبريل، في لقائه مع بعض الرسل، وهم إسماعيل وإسحاق ولوط. ولا ندري هل قصد الفنان الأفغاني القديم بهذا الاجتماع ما يروى عن لقاء الرسول بسلفه من الأنبياء في المسجد الأقصى؟ أم أن الصورة تعبّر عن لقاء الأنبياء في الجنة؟

ومن الملاحظ أن الصور جميعاً كانت تحتوي تقليداً يتمثل في ضرورة رسم هالة مشعة من النور فوق الأولياء من الرسل والملائكة أو الصحابة الكرام أو زوجات الرسول.

والبراق لا يمثل في ثقافة الفنّان الصوفي القديم مجرد وسيلة مواصلات مؤقتة، فهو دابة النبي الخاصة التي سوف تصاحبه في الجنة أيضاً! فمخطوطة "معراج نامة" التي تعود إلى سنة 1500، تحوي رسوماً دينية من بينها لوحة تصور النبيّ وهو يمتطي البراق في الجنة، وتتضمن اللوحة أيضاً مجموعة من الحور العين يمتطين الجمال.

أما في الجانب العربي، فكان المصور الشعبي أقل تصرفاً في وصف المقدسات، فلم يكن حرّاً في وصف الأنبياء والملائكة، لذا اكتفى الرسام بتصوير الأماكن والمساجد، وعندما قام بتصوير "البراق" رسمه وحده دون راكِبه.

وفي قنا، بصعيد مصر، رصد النقاد التشكيليون رسماً جدارياً يتضمن العديد من الوحدات من بينها البراق، الذي تخيّله الفنان الشعبي بوجه فتاة وجسم يشبه جسم الفرس، وله جناحان. ويظهر من الرسم أن الهدف منه الإشارة إلى شيء ما له علاقة بالنبي، حيث كتب الفنان أسفل الصورة نصاً شعبياً مأثوراً منسوباً للنبي: "من زار قبري وجبت له شفاعتي". فالرسم مناسبته "الحج" وليس "الإسراء والمعراج"!

يذكر أن المستشرق البريطاني توماس أرنولد قد لفت إلى مكانة "البراق" في الفن الإسلامي في كتابه "التصوير في الإسلام" (Panting in Islam)، وهو كتاب قيّم لم نصادفه مترجماً للعربية حتى الآن!

دلالات

المساهمون