هبة أبو طه

في ساعات الصباح المظلم من يوم 26 يناير/ كانون الثاني، ودّعت جنين تسعة شهداء، وكأنّ الدم الذي يمتد في فلسطين المحتلة منذ مطلع العام، يأبى إلّا أن يتم تطهيره في مخيم الصمود، حيث المقاومة القابضة على الجمر تتصدّى لإرهاب العدو ومجازره.

تسلّل جنود المحتل الإسرائيلي إلى مخيم جنين، واشتبكوا مع عناصر المقاومة الذين كانوا لهم بالمرصاد، ليقترف العدو مجزرته التي تخلّلت إقدامه على القتل من المسافة صفر، واغتيال، وإعدام... قبل أن يضطر إلى الخروج من المخيم تظلّله جيوش الخيبة والعار.

أدرك الشهيد الفلسطيني، أحمد أبو جنيد، أنّ العالم كفيف، وإن أبصر، وأنّ أسمى كلمة اليوم تكمن في طلقات يصوّبها نحو المحتل الإسرائيلي. وفيما كان يغرق في التفكير، أبصر رفيقيه الشهيدين المقاومين، عامر أبو زيتون ومهدي حشاش يدعوانه إلى السماء، فارتقى شهيداً.

في عام 2022 وحده، قدّمت فلسطين قرباناً لحريتها أكثر من 230 شهيداً، تُعدّ أسماؤهم مع آلاف سبقوهم بأعوام لم تطوِها... تصوّب أنظارها إلى السماء حيث تكويها الآلام وولع الاشتياق إلى شهداء قدّموا أرواحهم فداء لها ولا يزالون يحرسون ثراها من فراديسهم.

بكلمات لا يُفسرها إلا من يُدرك عمق ثناياها عندما ينطقها لسان تميم البرغوثي؛ تُصنع النهايات الجميلة؛ وهل من جمال هنا يعدو جمال تميم حين يطل متوشحاً بكوفية فلسطين في اختتام كان مسكاً لكأس عالم استثنائي؟  

عمر منّاع، شهيد فلسطيني أخر، انضم إلى من سبقوه من شهداء فلسطين وشهداء الجبهة الشعبية التي انضم لها واعتنق فكرها وبطولات قادتها ومناضليها الذين أقسم بأن يمضي على دربهم، وقد وفى بوعده وسار إلى لقائهم في الأعالي الأعالي.

صدق الفدائي بوعده، ترجل في اليوم الموعود، احتسى قهوته بهدوء، نفث دخان سجائره، ونحو القدس اتجه حيث خطّط منذ شهور. القلب يُسيّره تلوّح له الشهادة بيديها ثم تسير أمامه فيتبعها إلى أن يرتقي شهيداً بعدما آخذ بثأره وثأر كل من سبقه من شهداء.

الاحتفالات تُقام في جنين، والولائم تمتدّ في عش الدبابير، والذبائح تتوزع هنا وهناك، فالتاريخ 5 نوفمبر/ تشرين الثاني، والاحتفال فيه يُدشن لأجل عرس فاروق سلامة، أهالي المدينة يترجلون إلى صالة وصل امتدادها إلى الشمس، حتى بدأت بالكسوف حزناً على الشهيد.

توّهم الاحتلال الإسرائيلي أنه قتل الشهيد عدي التميمي، ولم يعلم أنه هو من أراد الارتقاء شهيداً للقاء من سبقوه من أقمار تنتظره في سماء القدس، وأنه تحوّل إلى فكرة بعدما أصبحت وصيته تُذاع في العالم، لتخلق ألف عدي يعدو على الأرض ويقاوم الاحتلال.

بساعات معدودة ودعت نابلس 4 أقمار وهي تنتظر شفاء أكثر من 20 جريحاً، والأسود تزأر ولم يقدر عليها الاحتلال، لا باقتحام وعدوان ولا بـ"قوات خاصة" ومدافع وآليات عسكرية وقناصين، ولا حتى بحصار، فكل قطرة دم بتلك البلاد تولد أبطالا جددا ليسقطوا جنود هذا العدو.