وأعلن عضو "مجلس الشورى" في "تحرير الشام"، جمال زينية، والملقب بـ"أبو مالك التلي"، ترك الهيئة، مشيراً، في بيان صدر عنه الثلاثاء الماضي، إلى أن سبب ابتعاده هو جهله وعدم علمه ببعض سياسات الجماعة أو عدم قناعته بها، و"هذا أمر فطري، فقد جُبل الإنسان على حب المعرفة"، بحسب تعبيره. ولكن التلي قال، في بيانه، إن ما سماها بـ"الأخوة الإيمانية" تجمع بينه وبين الهيئة، التي فقدت في الآونة الأخيرة عدداً من قادتها المنتمين إلى التيار المتشدد فيها. وكان التلي قد عبَّر قبل أيام عن رفضه لقرار صادر عن "حكومة الإنقاذ"، التابعة للهيئة، متعلق بإيقاف صلوات الجماعة في المساجد بسبب تفشي فيروس كورونا المستجد.
ويعد أبو مالك التلي من القياديين البارزين في "تحرير الشام"، وكان لسنوات أمير "جبهة النصرة" (الاسم الذي بدأت فيه الهيئة نشاطها العسكري في سورية) في القلمون الغربي. وعُرف التلي في وسائل الإعلام في العام 2014 إبان أزمة راهبات كنائس معلولا، اللواتي أُخذن أسيرات من قبل "جبهة النصرة"، وأُطلق سراحهن ضمن صفقة كبيرة مع النظام، اشتركت فيها أطراف عربية وإقليمية. وانتقل إلى محافظة إدلب، بموجب اتفاق بين "حزب الله" اللبناني و"هيئة تحرير الشام" منتصف 2017، وظل أبرز قادة الأخيرة في سورية قبل استقالته المفاجئة الثلاثاء الماضي.وسبق أن استقال واحد من أكثر قادة الهيئة تشدداً، وهو المدعو "أبو اليقظان المصري" الذي ترك الهيئة في فبراير/شباط 2019، اعتراضاً، كما بدا، على اتجاهها نحو التساهل في بعض القضايا، في سياق محاولات تسويق نفسها إقليمياً من أجل تخفيف الضغط العسكري عنها، واعتبارها جزءاً من حل وليست مشكلة. وفي السياق، أعلن بسام صهيوني، رئيس ما يُسمّى بـ"مجلس الشورى العام" في الشمال الغربي من سورية، استقالته، مشيراً، في تغريدة على "تويتر"، إلى أنه سيبين أسباب الاستقالة لاحقاً. ويرتبط هذا المجلس بـ"هيئة تحرير الشام"، ومنه انبثقت "حكومة الإنقاذ" في محافظ إدلب.ولم تكن الهيئة على حافة التفكك كما هي عليها اليوم، خصوصاً أنه لم يعد هناك مناص أمام الجانب التركي إلا التعامل بشكل جدي مع الهيئة، إما حلاً نهائياً أو دمجاً في فصائل المعارضة السورية، لتجنب تصعيد جديد من الجانب الروسي الذي لطالما اتخذ من الهيئة ذريعة للفتك بالمدنيين وفصائل المعارضة التي تؤمن بحتمية الحل السياسي في سورية. ومنذ إبريل/نيسان من العام الماضي، تزايد الغضب من الهيئة بعدما تراجعت أمام قوات الأخير في أرياف حماة وإدلب وحلب، إذ فقدت خلال أشهر ريف حماة، وجُل ريفي حلب الجنوبي والغربي، وقسماً من ريفي إدلب الجنوبي والشرقي. وعبّر الشارع السوري المعارض عن استيائه من الهيئة من خلال تظاهرات خرجت خلال العام الحالي، تطالب بحلها ومغادرة عناصرها المدن. كما رددوا هتافات ضد زعيمها أبو محمد الجولاني، ووصفوه بـ"العميل" و"الخائن".
وكانت مصادر مطلعة قد ذكرت أن الهيئة لم تزج بثقلها العسكري في معارك أرياف حماة وحلب وإدلب، خصوصاً سلاحها الثقيل. وهي تملك، وفق المصادر، أكثر من 70 دبابة، حتى لا تفقد كامل قوتها، في تحسّب لمرحلة مقبلة ربما يلجأ فيها الجانب التركي إلى الخيار العسكري المباشر لتفكيكها. في حين تؤكد مصادر أخرى، لـ"العربي الجديد"، أن قادة في الهيئة "يميلون للتعامل بشكل واقعي مع التطورات المتلاحقة"، مشيرة إلى أنها "ربما لن تمانع في المشاركة في أي عمل عسكري للقضاء على مجموعات أكثر تشدداً تنتشر في الشمال الغربي من سورية، وترفض بالمطلق أي تفاهمات روسية تركية تخص محافظة إدلب ومحيطها". وأوضحت أن هناك تيارين داخل "تحرير الشام"، الأول يتعامل مع تعقيدات الموقف بشكل براغماتي خشية أن يقود التشدد الهيئة نحو التفكك، والثاني يرفض أي تهاون في طريقة التعاطي مع التفاهمات التركية والروسية، ويعتبر أن خيار "المقاومة" هو الأنسب. وأوضحت أن التطورات العسكرية الأخيرة ربما تؤدي إلى انفراط عقد التيار المتشدد في الهيئة، الذي يرفض حلها أو اندماجها في فصائل المعارضة السورية.وذكرت مصادر مطلعة على ما يدور في الهيئة، أن أغلب القادة، الذين يوصفون بـ"المتشددين"، باتوا خارج "مجلس شورى" الهيئة. وأشارت إلى أن "قيادة هيئة تحرير الشام تسهّل للجانب التركي عملية انتشار قواته في عموم محافظة إدلب"، وذلك مقابل البقاء والتعويم ورفع صفة الإرهاب عن الهيئة. ورجحت أن يكون هناك حل شكلي لـ"تحرير الشام" أو اندماج شكلي أيضا في فصائل المعارضة، مستبعدة حل الجهاز الأمني في الهيئة.
وطيلة سنوات الصراع في سورية، كانت الهيئة لاعباً عسكرياً مهماً في مجريات هذا الصراع في أغلب الجغرافيا السورية، لكنها، في الوقت نفسه، كانت مدخلاً واسعاً للنظام وداعميه الروس والإيرانيين لوأد الثورة السورية تحت ذريعة محاربة الإرهاب. واقتحمت "جبهة النصرة" المشهد الثوري السوري مطلع العام 2012، حين بدأ يتسامع بها السوريون في ذروة ثورتهم السلمية، التي واجهها النظام بالقوة لدفع الثورة نحو العسكرة. ونفذت الجبهة في ذاك العام عدة عمليات عسكرية ضد قوات النظام، لعل أبرزها محاولة اقتحام مبنى هيئة الأركان لقوات النظام الحصين وشديد الحراسة في قلب العاصمة دمشق. وكان هذا العمل بمثابة إعلان مدوٍ للجبهة التي بايعت زعيم تنظيم "القاعدة" أيمن الظواهري، الذي أعلن، في نوفمبر/تشرين الثاني من العام ذاته، أنها الممثل الوحيد لتنظيم "القاعدة" في سورية. وسيطرت "النصرة" على مناطق في شمال سورية وجنوبها، خصوصاً في ريفي إدلب وحلب. كما سيطرت على محافظة الرقة في بدايات العام 2013، مع حركة "أحرار الشام الإسلامية"، وفصائل تابعة للجيش السوري الحر، وعلى مساحات في ريف دير الزور الشرقي وفي ريف الحسكة الجنوبي والغربي، فحصلت على تمويل كبير من هذه المنطقة الغنية بالبترول. وتعرضت "جبهة النصرة" لضغوط شعبية كبيرة لتغيير اسمها ومسارها وخطابها السياسي، وهو ما تحقق في يوليو/تموز 2016، مع إعلان زعيمها أبو محمد الجولاني فكّ ارتباطها بتنظيم "القاعدة" وتغيير اسمها إلى "جبهة فتح الشام". لكن ذلك لم يكن كافياً لإقناع المجتمع الدولي. واستهدفت غارات جوية من التحالف الدولي والجانب الروسي قادة الصف الأول فيها. وفي يناير/كانون الثاني 2017، اقتتلت الجبهة مع فصائل تابعة للمعارضة في شمالي غرب سورية، معلنة عن اندماجها مع فصائل أخرى تتشارك معها في المنهج والرؤية في "هيئة تحرير الشام"، والتي تولّى قيادتها الجولاني أيضاً.
تنفذ سلطات الاحتلال، منذ نحو أربعة أشهر متواصلة، في الضفة الغربية، عملية عسكرية متصاعدة من دون توقف أو انقطاع، تحت مسمّى "كاسر الأمواج" تطاول المقاومين والنشطاء السياسيين والمدنيين من مختلف الأعمار، وتشمل المؤسسات الاجتماعية، بما في ذلك جمعيات حقوق الإنسان والإعلام، ولا تتورّع عن استخدام القوة المفرطة ضد الرجال والنساء والأطفال، وتُمعن في القتل من مسافة صفر، والإعدامات بدم بارد، والترويع والاقتلاع وهدم البيوت، وتشنّ، في الوقت ذاته، حملة اعتقالات يومية واسعة النطاق، وتحتجز جثامين الشهداء، وغير ذلك من الارتكابات الفاشية، على نحوٍ لا سابق له منذ سنوات طوال، بهدف كسر روح شعبٍ يواصل معركة البقاء والصبر والمقاومة بكلّ الأشكال. لا يحتاج الأمر إلى قدرة عبقرية للوقوف على منابع هذه الوحشية المتمادية لدولة احتلال متموضعة على جناح طائرة حربية من صنع أميركي، ولا إلى معارف خبير في الشأن الإسرائيلي، لتبيان دوافع مسلك إجرامي مدان بكل المعايير، إذ يمكن لكلّ عينٍ بصيرة أن تشاهد عن بُعد جملة طويلة من العوامل والأسباب وراء كلّ هذا الفجور الفالت من عقاله، في مقارفة الجرائم الموثّقة بالصوت والصورة في بعض الأحيان، وأن تقف بنفسها على كثير من مكوّنات هذه الوحشية الملازمة لكل احتلال، مثل الشعور بالاستعلاء العنصري، وغطرسة القوة المجرّدة، واستفحال الكراهية، والرغبة الجامحة في الاستملاك ونهب الأرض، ناهيك عن اختلال الموازين، والإفلات من العقاب وغيره الكثير. تضع هذه العجالة جانباً كلّ تلك العوامل المذكورة آنفاً، لتتحرّى أمراً واحداً من كلّ تلك الأسباب خلف هذه الوحشية المتجلية في الضفة العربية آناء الليل وأطراف النهار، ونعني به الذعر الضارب عميقاً في عمق أعماق مجتمع مصاب بالرهاب من الذكريات التاريخية، وبالرعب من عقدة الفناء عند أول هزيمة، والخوف المستتر تحت غلالة من القوة إزاء عناد شعبٍ انبعث من تحت الرماد، وبات اليوم رقماً صعباً غير قابل للامحاء، وآل إلى حالة وطنية مختلفة عن تلك التي كانت قبل أكثر من سبعة عقود، فقد غدا أصلب عوداً، وأكثر عدداً، وأرقى وعياً وأرفع علماً، وأفضل أداءً في إدارة الصراع، ناهيك عن ميلاد جيل جديد أشدّ بأساً ومضاءً من جيل الأجداد والآباء. ومع أنّ كلّ هذه الوحشية كانت حاضرة منذ ما قبل حرب 1948، ثم ظلت متواصلة عبر مجاز دموية لا نهاية لها، فإنّ جديد تجلياتها وضوحاً كان في زمن الانتفاضة الثانية قبل عشرين سنة، حين بلغت هذه الوحشية ذروتها بإعادة احتلال الضفة الغربية المحتلة، ومقارفة أبشع أدوات القمع والقهر والقتل والاعتقال، ليس فقط لوقف الانتفاضة، وإنّما أيضاً لتحقيق ما سمّي حينها "كي الوعي" لشعبٍ متمرّد على الظلم، وإعادة زرع الخوف في أعطافه من الجلاد، وبث الشك واليأس في قلبه حيال قدرته على كسب معركة أو تحقيق أي إنجاز، ومن ثمّة تبديد حلمه بنيل الحرية والاستقلال. لدينا اليوم مثالان ساطعان على تمادي الوحشية الإسرائيلية من دون كابح أو قيد: أولهما قتل الصحافية البارزة شيرين أبو عاقلة عن سابق قصد، لخوف المحتلين من الحقيقة وازدرائهم حق الإنسان الفلسطيني في الحياة، ولعل المشاهد التي رافقت تشييع شيرين في القدس، وما تخلّل موكب الجنازة من وحشيةٍ تجلّ عن الوصف، خير دليل إثبات على استشراء الذعر الساكن في الوعي الإسرائيلي العام، وانكشاف أحد أهم الأسرار المؤسّسة لهذه الوحشية وهذا الإجرام. أما ثانيهما فهو ماثل كالشمس في رابعة النهار، في الإصرار على استمرار اعتقال الأسير خليل عواودة، المضرب عن الطعام منذ نحو 165 يوماً، وذلك لخفض الروح المعنوية لدى شعبه الأسير، وحرمانه من الشعور بالقدرة على تحقيق أي انتصار، مهما تواضع مثل هذا الانتصار. وعليه، يمكن الاستنتاج بكلّ ثقة أنّ الذعر المستوطن في عمق أعماق دولة الاحتلال، والمصاحب لها منذ نشأتها بالحديد والنار، هو سرّ أسرار كلّ هذه الوحشية التي شاهدناها في غزّة قبل نحو شهر، ونراها اليوم في الضفة الغربية خلال الليل والنهار، كما لا يمكن لصاحب عقلٍ مستنير ألّا يربط بين تفاقم مظاهر الوحشية هذه وتفشّي حالات التطبيع المجاني من بعض دول الأطراف مع دولةٍ لا تقيم أدنى اعتبار لكلّ من يخفض لها جناحاً، أو يدير لها الخد الأيسر إذا صفعته على الخد الأيمن، حتى لا نقول ما هو أشدّ مضاضة على النفس.
كاتب سوري