التوجيه الدراسي في العالم العربي

التوجيه الدراسي في العالم العربي

16 يونيو 2016
+ الخط -

يعتبر التعليم رافعة للتنمية وقوة دافعة للنهضة الثقافية والحضارية للأمم، فهو تلك المنظومة المتكاملة من تربية وتكوين وتلقين بهدف التمكن من الحصول على جيل متعلم، واع ومثقف، مزود بالمعارف ومحمل بالمهارات التي تغذي كفاءاته وتجعله قادراً على تحمل المسؤولية والمساهمة في بناء الوطن.

وبما أن التعليم يحمل رسالة نبيلة في خدمة الأمم ويجسد مشروعاً قومياً بامتياز، فالاعتناء به فريضة واجبة للالتحاق بركب الأمم المتقدمة والتخطيط له مسألة رئيسية لمجابهة تحديات العصر الحالي سواء تلك المرتبطة بالعولمة، المنافسة الشديدة، السرعة في اتخاذ القرار، الثورة التكنولوجية والرقمية، وكذلك نظيرتها ذات الطابع السياسي كالسلم الاجتماعي، ومكافحة الإرهاب، والاندماج في المجتمع ومحاربة الجريمة؛ فإن التوجيه الدراسي هو ركن عتيد ولبنة داعمة في إرساء نظام تعليمي حديث ومثمر.

على هذا الأساس، يمثل التوجيه الدراسي مجموعة الخدمات التربوية والنفسية والمهنية التي تقدم للفرد ليتمكن من التخطيط لمستقبل حياته وفقاً لإمكاناته وقدراته العقلية والجسمية وميوله بأسلوب يشبع حاجاته وتحقيق تصوره لذاته.

إنه عملية مساعدة الطالب في رسم الخطط التربویة التي تتلاءم مع قدراته وأهدافه، وأن يختار نوع الدراسة والمناهج المناسبة والمواد الدراسية التي تساعده في اكتشاف الإمكانات التربوية في ما بعد المستوى التعليمي الحاضر، ومساعدته في النجاح في برنامجه التربوي.

ويتمحور مفهوم التوجيه الدراسي على الإجراء الذي يسمح للتلميذ بعبور المراحل التي يتكون منها النسق المدرسي فهو يتبعه في مشواره الدراسي وفي كل مرة تحضر أمامه مجموعة من الاختيارات وعليه أن يتخذ قراره.

وبذلك، فإن التوجيه الدراسي بمثابة عملية بنائية تهدف إلى مساعدة الفرد لكي يفهم ذاته ويدرس شخصيته ويعرف خبراته، ويحدد مشكلاته، وينمي إمكاناته، ويحل مشكلاته في ضوء معرفته ورغبته وتعليمه وتدريبه، وفي إطار من التعاليم الأخلاقية لكي يصل إلى تحقيق أهدافه، وتحقيق التوافق شخصياً وتربوياً ومهنياً وأسرياً واجتماعياً، وبالتالي يساهم في تحقيق الأهداف العامة للعملية التعليمية.

ومما يلاحظ في هذا الشأن أن التوجيه المدروس هو السر في نجاح المسيرة الدراسية للتلميذ، ولذلك يستلزم الأمر الملاءمة بين مؤهلات الفرد العلمية وأنماط الدراسة والمهنة المتبعة بهدف تطوير النضج في الاختيار الدراسي والمهني، وتحقيق أقصى درجات التكيف والنمو الدراسي أو المهني، مع احترام مؤهلات وميول المتعلمين. علاوة على ما سبق، يحتاج الأمر إلى مرافقة الدارسين من خلال إقامة علاقة إرشادية وتربوية تحترم عقولهم وتنهض بوعيهم، لكي يشعر التلميذ بحقوقه كاملة في النصح والإعلام، التوجيه والإرشاد، المعرفة، الانتماء للمؤسسة التعليمية وللوطن وممارسة حقه في اختيار مستقبله وبناء مشروعه المهني.

وفي الواقع، يشكل التوجيه الدراسي في الدول العربية نقطة سوداء، فأوجه النقص تجعله شبه غائب عن الساحة التعليمية. وهنا، وجب توضيح أن التوجيه لا يتجلى فقط في وجود مستشارين تربويين تابعين لوزارة التعليم يزورون المدارس مرات معدودات ولا يظهرون إلا في السنوات الدراسية المصيرية المحددة لتوجهات التلميذ عبر شرح التخصصات المتوفرة من أدبي، علمي، تقني واقتصاد وتبيان شروط وكيفية القبول بكليات التمييز والمعاهد الكبرى بالدولة. إن التوجيه الدراسي عبارة عن سياسة كاملة تصاحب التلميذ منذ سنواته الدراسية الأولى ومنهاج ثنائي المسؤولية.

وعلى هذا النحو، نجد أن الدولة تتحمل مسؤولية كبيرة في صياغة التوجيه الدراسي وتنفيذه ومتابعة تطوراته، حيث يجب أن تعمل على حزمة من الإجراءات التي تربط المخرجات التعليمية بسوق الشغل وبحاجيات المجتمع، وذلك من خلال دراسة سوق الشغل المحلي والعالمي والكمية التي يحتاجها من المهندسين، والأطباء والاقتصاديين والأطر الإدارية، وكذلك معرفة مدى احتياج المجتمع للفلاسفة، والمفكرين وعلماء الاجتماع، الأمر الذي يجعل من مؤسسات التعليم منتجة للرأسمال البشري ومساهمة في مسيرة التنمية.

علاوة على ذلك، يظهر نقص كبير من حيث المعلومات المتوفرة عن التخصصات الدراسية وتحتاج إلى تحيين للمعطيات بالموازاة مع التطورات العالمية.

على صعيد آخر، يتحمل التلميذ وأسرته جزءاً مهماً من المسؤولية، فتأثير الأسرة كبير، حيث نجد أن في العديد من الدول العربية ما زالت الأسرة تفرض على أبنائها التوجه نحو تخصصات لا تريدها ولا تستطيع دراستها؛ إما تحقيقاً لرغبة الأسرة أو تقليداً للأقارب، ثم يظهر تأثير الأسرة كذلك في توجيه التلميذ نحو القرب الجغرافي لمكان دراسته، حيث نجد أن العديد من التلاميذ يختارون الدراسة في معاهد قريبة لهم على الرغم من أنها بعيدة عن تخصصاتهم ورغباتهم، ويفرض هذا الأمر على الدولة العمل على جهوية المؤسسات الدراسية وتسهيل الدراسة بالمعاهد البعيدة عن التلاميذ عبر تقديم منح ومساعدات.

ختاماً، إن المنظومة التعليمة في الدول العربية تحتاج إلى فلسفة تربوية جديدة وسياسة توجيهية محكمة تعزز بناء مدرسة المستقبل، تلك المدرسة المعنية بقضايا أمتها، والتي تحمل همومها وأحلامها، الساعية للحرية والتنمية والحاضنة لقيم المواطنة، العدالة والكرامة، إنها المدرسة صاحبة الرؤية الاستراتيجية وذات الموقع الفاعل في تحفيز وإعانة المدرس والتلميذ على الإبداع.

لذلك، فإن التوجيه الدراسي يستوجب توفر مستشارين بقدر كبير من الكفاءة والاطلاع على مستجدات التعليم ومتطلبات سوق الشغل، وإقامة أجهزة إعلامية للتوعية والتحسيس بالتخصصات الدراسية، والبرامج المتبعة، وكيفية التقديم لها، والمنح المخصصة لها، ورصد ملكات التلاميذ في الأدب والعلوم والفنون والرياضات، تقديم الاستشارة النفسية خاصة للأطفال في أوضاع أسرية صعبة ومن ذوي الاحتياجات الخاصة، بالإضافة إلى تلقين التلميذ كيفية وضع خطة مستقبلية لمشروعه المهني.

المساهمون