المآسي التي تكرّرها الأزمان العراقية

المآسي التي تكرّرها الأزمان العراقية

18 فبراير 2016
عندما يسود المكان صمت غريب (Getty)
+ الخط -
أشعر أحياناً بأن الزمن يتكرّر مع العراقيين بطريقة عجيبة، فهو يختار الأزمان السيئة المليئة بالقحط والأزمات والحروب ليكرّرها على الأجيال التي تولد على أرضه، تتكرّر بشكل غريب مذكّرة العراقيين بسنوات مؤلمة وقاسية، ولأمي حكمة تردّدها دائما على مسامعنا كلما رأت تذمّرنا وحبّنا للترف والدلال، فتقول لنا بحسرة إن على العراقيين التعود والتدرّب على الأزمان السيئة، فهم كلما مرّت عليهم سنة رفاهية ورخاء، اقتحمت حياتهم سنوات وعقود سوداء، مجدبة وآكلة للأبناء.

ففي الأيام التي كانت الكهرباء تنقطع فيها لأوقات طويلة، قد تستمر أياماً بلياليها على اختلاف أسباب انقطاعها، من تفجير مسلحين لشبكات الكهرباء، إلى قطع حكومي معاقِب للمدن، إلى الأزمات الاقتصادية أو العطلات التي لا تصلح إلا عندما نقترب من الجنون، وبينما تشغلنا أعمال النهار بضوء الشمس عن الالتفات للأمر، يأتي الليل ليزيد من شعورنا العارم بالوحدة والكآبة، ليل مظلم وموحش، لا ضوء فيه، تتخلّله أصوات رصاص أحياناً، وأحيانا أخرى انفجارات بعيدة يشعر بها زجاج النوافذ فقط.. في تلك الليالي، تصبح الأشياء من حولك أكثر وضوحاً، فمدفأة "عشتار" النفطية، تصبح جزءاً من العائلة وفرداً دافئا لا يمكن لليالي أن تتم دونه.

نجلس حولها كلنا في مشهد غريب، يبدو وكأنه قادم من رواية قديمة، أو زمن آخر لا يشبه زمن مكيفات التدفئة والبيوت المضاءة بلا انطفاء، نكون منقطعين فيه عن العوالم الأخرى المجاورة لنا، فنكون مجتمعين حولها كأنها صديق قادم من سفر طويل، ننتظره بدفء وننتظر منه أن يمدّنا بدفء حكاياته ليخلّصنا من هذه الليالي المظلمة.

تبدأ أمي ساعتها بأخذ دور الحكّاء، وتحدّثنا في صمت تلك الليالي عن أزمان عراقية قديمة لا تشبه أيامنا هذه، أو هي بالأحرى تشبهها تماماً رغم بعد الزمن، فالعراق ويا لغرابته، يحاول أن يكرر على الأجيال التي تولد على ترابه ذات القصص والتفاصيل، فالزمن القديم الذي تحدثنا عنه أمي في وقت ماضٍ لم تكن الكهرباء فيه قد دخلت إلى مدينتهم الصغيرة في أقصى غرب الأنبار، يشبه كثيراً السنوات التي عاشها العراقيون بعد ذلك، بانقطاع مستمر وأحيانا كامل للكهرباء، وإن كانوا سابقاً قد تأقلمت حياتهم مع عدم وجود الكهرباء، فنحن أجيال نعي وجودها حولنا ونعاني فقدانها، لكن تبدو الكهرباء وانقطاعها أمراً تافها وسط الحروب المجنونة التي نعيش وسطها، فما أهمية الكهرباء حين تفقد الأرواح قيمتها؟ لا قيمة لأي شيء هنا، لا الأشياء ولا الأرواح، وحدها المدفأة النفطية الآن تشبه لحظاتنا المرّة، وتذكّرنا بحكايات ماضية ومستمرة.

تقطع رصاصة غبية جو الحكاية الذي أدخلتنا إليه أمي واحتمينا بدفئه من برد الليل المظلم، تسود لحظات كئيبة بعد ذلك، تتخلّلها أسئلة حول من أطلق الرصاصة ومن سقط ضحيّتها.. تغيب هذه الأسئلة بعد وقت قصير، كما تغيب قصة الرصاصة.

وبعد انتهاء ذلك الزمن بفعل النزوح، فقدت الأشياء حولنا قدرتها على التأثير بنا، فالنزوح يجرّدك من تمسكك بما كنت تراه جزءاً منك.

لكن الآن، وبعد عام وأكثر على النزوح، في لحظة تباغتنا فيها هموم عراقية متكرّرة أيضا، من أزمة اقتصادية تهدّد الجميع، إلى الحروب التي تديرها دول على أرضنا، تغمر الكآبة العائلة، وفي لحظة ما، تنقطع الكهرباء مجدّداً، الكهرباء التي فقدنا تعوّدنا عليها، فيسود المكان صمت غريب.. لا يقطعه إلا تذكّرنا لوجود كائن محبّب قربنا، تعود المدفأة النفطية لأخذ مكانها في قلوبنا، لتصير جزءاً من ليلة مظلمة تكرّرت آلاف المرّات على العراقيين.

فبين أجيال قديمة مرّت، تعدّدت همومها وأحلامها وتلاشت في لحظة، وبين أجيال تعيش اليوم على هذه الأرض موزّعة بين نزوح إجباري أو مكوث مؤقّت، تعود المدفأة لتروي حكاية عراقية تتشابه كثيراً، وتختلف أيضاً.

(العراق)

المساهمون