الانتكاس العنصري المناطقي

الانتكاس العنصري المناطقي

21 يناير 2016
إنه انتكاس في مفاهيم التحضر والرؤية نحو الآخر(فرانس برس)
+ الخط -
النكوص في القيم والمفاهيم الاجتماعية والمجتمعية خلال الأزمات الحالية:الوضع السوري نموذجا

نجحت الأنظمة الشمولية على مدى سنوات تجذرها في تعمية العقل الجمعي وبرمجته على حالة التبعية والاستسلام. فلا يكاد أن تُفتح له النوافذ أو تُسلط الكشافات في عينيه حتى يرفضها بشدة ويصر على السير في دهاليز العتمة ومتاهاتها.

تعينه على ذلك النزعة الراكدة لدى مجتمعاتنا والتي تؤول للسلبية وعدم تصحيح الذات أو تطويرها والاستسلام، وهي ذاتها العناصر التي عملت عليها هذه الأنظمة خلال عقود. مما سهل مهمتها في تمكين نفسها من جهة وصعّب استئصال هذه الأنظمة نفسها سابقاً ولاحقاً، بل وساعد وبفعالية في عودة من اهتزّ منها بفعل الثورات من خلال تمحورات وتحولات انتكاسية ونكوصية لدى الخلايا النائمة الموقوتة المسماة تمويهاً بالمعارضة أو تلك الفئات الهلامية الصامتة التي تبدو لا مع ولا ضد.


النجاح الحقيقي لم يكن لتلك الأنظمة باستمرارها فقط طوال تلك العقود وتمكنها واستنزافها لموارد البلاد والشعوب بل وفي محو العقلية المواطنية إلى أبعد مدى وتشكيلها بقطيعية فريدة وحصر مفهوم المواطنة في علم وأناشيد وهتافات ولافتات تشيد بالأنظمة نفسها.

لقد ضربت هذه التربية المنظمة والمستهدفة أسافينها في قاع التكوين النفسي للإنسان الفرد فيها، فهو بادئ ذي بدء معنيٌّ (وظاهرياً فقط) ببلده وموطنه (من خلال إله الوطن!). ولذا فإن كارثةً أو حدثاً سلبيّاً ما سياسيّاً أو ثقافيّاً أو اجتماعيّاً في أي بلد آخر من المحيط إلى الخليج، فما بالك أبعد من ذلك، إنه لا يعنيه جملةً وتفصيلاً طالما أنه لا يتعلق بالترفيه والـ (هشّك بشّك)، بالإضافة إلى كونه في العموم منهمك في تأمين معيشته بصعوبة.

إن من العلميّ والمنطقي أن يكون التفاعل مع الآخرين على الأصعدة الإيجابية والسلبية منظومة واحدة لايمكن تجزئتها. بمعنى أن المعنيّ حتى العمق بوطنه معنيٌّ بما يحدث في محيطه، بل وبما يحدث في العالم بنسبة وتناسب يتفاوتان حسب ثقافته وعلاقة ما يحدث باهتماماته، وحسب تحلله من الضغوط المختلفة أيضاً. وهنا طبعا أعني المواضيع الجوهرية والخطوط العريضة والرئيسية، ولا أعني التفاصيل ودقائق الأمور عند أقل تقدير.

ما حدث هو التالي:
محورة المواطن حول نفسه وأناه، فقط .. قد يهتف مع القطيع لصالح الوطن ظاهرياً، لكن طالما تشكل هذا في منظومة جماعية مستوحاة من التلقين والتوجيه والإيحاء المباشر وغير المباشر فقدْ فقدَ (المواطن/ إنسان الوطن) إنسانيته ووعيه بمعنى الكلمة وهو منذ الآن آلة وببغاء يردد ضمن منظومة قطيع صغير (حزب أو مؤسسة ما) أو قطيع كبير (على مستوى الدولة).

هذا الكائن الآن فقد إمكاناته الذاتية والخاصة والفردية، فمن باب أولى أن يكون سلبياً مع ما يحدث من أمور المحك في البلاد الأخرى القريبة والبعيدة وبما فيها الأمور الإنسانية، وإن حقن مثلا بمطعومات (تطعيمات) مثل: المقاومة ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة (فيستسلم لعدم التحديث إذعاناً لسد ثغرات الفتنة والغواية الدينية والدنيوية)، وداوِها بالتي كانت هي الداء.

وعوداً على فكرة النجاح الحقيقي للشمولية على المستوى الفردي والاجتماعي خلال كل هذه الزلازل والمخاضات العثرة، فإنها قد عززت الأنانية المطلقة لدى الأفراد حتى غدت ظاهرةً فريدةً تستحق التأمل والدراسة وإعادة النظر خلال مانحن فيه.

حيث تبدأ بدوائر أولاها وأصغرها من النفس يعني أنانية للذات وتتوسع دائرتها شيئاً فشيئاً على نطاق الأسرة الصغيرة دون الأصدقاء، ثم العائلة دون العائلة الممتدة، ثم القرية دون غيرها، ثم المدن والمناطق دون غيرها، ثم البلدان دون غيرها.

وهكذا صعودا من إنسان ذاته في بلد ما أو هبوطاً من إنسان العالم ذاته في بلدٍ ما … النتيجة والمحصلة واحدة. وشواهد هذا العملية والواقعية كثيرة لا تعد ولا تحصى تراها في تفشي الاستحواذ المادي والاستقواء على الحلقات الأضعف وتفشي الفساد والمحسوبيات هو وجه من وجوه ذلك.

وحيث الوضع السوري حالة بذاته في صعد مختلفة بسبب ردات الفعل والهزات الارتدادية لكل ما يحدث، فإن هذا يظهر في الفئات التي خرجت خارج سورية بوضوح، وهو يستحق الدراسة، بل والصدمة. فهناك الزوج الذي ترك زوجته وأولاده للمجهول من دون أي دخل مادي وذهب لاجئاً إلى أوروبا، وهناك مواقف يحكيها سوريون عن بعضهم في مجتمعات الاغتراب الجديدة تكشف تخلياً واضحاً عن قيم التكافل الاجتماعي والقيميّ حتى بين بعضهم البعض، بل وأبعد من ذلك كاستغلال بعضهم احتياجات بني جلدته بشكل أو بآخر.

أما من بقي من السوريين داخل سورية فإنهم وإن سلكت فئات منهم بأنانية فإنهم يظلون محكومين بظروف عيشهم المحصورة بين مطرقة القصف والقذائف وسندان الغلاء والاحتياجات الحياتية اللازمة للبقاء على قيد الحياة والعيش، لكن ما ينبغي الالتفات إليه بجدية هو تلك الأنانية التي تتبلور بوضوح في النزعة المناطقية التي نجحت الأنظمة ومن ضمنها البعث في تعزيزها وتأصيلها لدى الناس وهي بالفعل أكبر نجاح حقيقي ملموس الأثر الآن.

في الشأن السوري مثلاً لا تغيب عن الذهن طبعا الممارسات الطائفية المموهة في إفساد أبناء طائفته وحصر إسناد العمل لهم في العديد من المنظومات والمؤسسات المختلفة للدولة باستثناء وجود قلة قليلة من غيرهم للديكور وذرّ الرماد في العيون.

كما نرى بوضوح التغييب الإعلامي لصالح أحداث منطقة أو مدينة على أخرى من قبل الجهات والمصادر الإعلامية ومنابر الخبر عموما وانتهاءً بالشخصيات التي جعلت من نفسها منابر خلال خمس سنوات.

ومن المعروف أن معظم المناطق السورية في ظل البعث بقيت خارج دائرة الضوء عدا دمشق وحلب واللاذقية تقريباً. لكن المفارقة أن تبقى ذات المناطق المهملة في عهده مبعدة إعلامياً خلال الثورة إلى حد لا يمكن التقليل منه مثل الحسكة ودير الزور وإدلب.

وأما عن أخبار تلك المناطق فإنك تجدها بالكاد في زوايا صغيرة على استحياء من المواقع الإخبارية المتخصصة المختلفة والمضطرة بحكم وظيفتها للمرور عليها، ومنها ما هو مشوب الغايات، وما سوى ذلك من منابر وشخصيات برت نفسها لشأن الثورة لا تأتِ على ذكر الإبادة والإجرام والقصف المستمر عليها منذ حوالي شهر ونزوح سكان مناطق معينة دون أخرى.

أما ما يبدو مركزاً وجليّاً منذ خمس سنوات، فهو انفراط العقد تجاه تفاعل أبناء الوطن الواحد طالما كانوا خارج نطاق مدينتهم بل ربما خارج نطاق الأقارب والأصدقاء. فالعملية تحصيل حاصل إذا من ثقافة الدوران حول الذات والتمحور الفردي ونكوص المجتمع نحو مفاهيم الإنسان البدائي والتي يفترض أن نكون قد قطعنا عنها شوطاً بعيداً.

إنه انتكاس في مفاهيم التحضر والرؤية نحو الآخر والتعايش والوحدة المجتمعية والإنسانية، كيف لا وهو نكوص واضح نحو مفاهيم الجماعات الصغرى (من ناحية المصلحة) والقبلية والتي بشكل أو آخر تتسع وتضيق حسب الحاجة النفسية والمادية لتشمل مفهوم المناطقية الذي يستدعي حزناً وقلقاً بالغين، لأن من تبرمج على هذا النحو إن تعرض مركبه للغرق فسيقذف بزوجته وفلذات كبده يوماً ما ليبقى هو وحده، وإن بقي وحده في هذا العالم..

(مصر)

المساهمون