حين تَنَزّلت بنا... حيفا

حين تَنَزّلت بنا... حيفا

24 سبتمبر 2015
الزمن يتناحر مع وقته، حيفا 1930 (Getty)
+ الخط -
في حيفا لا في سواها، يستفيق منك آدم الأول، فتوقفك مُستحضرة شيئاً من السّماوات. لن تعزوها إلى الأرض أبداً؛ فلا يُعتقك من التفكّر سوى إيمانك، أنّها لفظةُ الجنّة وقعت، إذ بها في قابِ الأفق المُبين. بين السّماء والطّارق تنتصبُ أمامك فارضة عليك تحيّة الجلالة، فيُحدّثها قلبك: يا صاحبة الجلالة! ألن يغفر لنا جمالك الحزين شيئاً من نيساننا المشؤوم؛ فنعود إلى الجنّة التي فقدناها... وحيفا من منحدر الكرمل لا تجيبُ أحداً، تذوب في الأفق.


كما ينضج التّفاح في الهضبة والعنب في الخليل، ينضجُ الحُبّ في حيفا مُعرّشاً على المواسم، السّاحل موقد الحكايا، وحده من يمنحها امتداد النهايات، ومشارف حيفا للقادمين إليها عتق إلى الهذيان. هناك، لا شيء يراودك كما يراودك الحبّ الذي تنزفه المدينة في كل جانب، ألا ما أقربه إلى اللّعقة الأولى، التي تُجيبُ نداء طفلٍ مُضاعٍ فقد مشيمته... لتُذكّرنا، أنها مشيمة الوطن التي اكتنزت بالعطايا وضاعت منها كلّ الأجنّة.

تقفُ هناك في تلال الكرمل تداعِبُك مع نسائمها قسمات روح عربيّة قد توسّدت صدرك. النسائم في حيفا تُباغتك كالصدفة التي نجت من قبضة القدر، تَهُبُّ بملامحك العربيّة التي تعبت من تبلّدِها، لتُدبّر لقلبك القلق، عند سكّة الحجاز في شرق حيفا مُلتقى، بين دمشق والمدينة المنورة... يعاودك القدرُ عند النسمة الثانيّة، ويُذكّركَ أن الميدان الذي نصبه سُكّانها احتفاءً بجثمان "الملك فيصل الأول" حين مرّ بحيفا مُشيعاً إلى العراق، قد بدّلوا موضعه من احتلّوا المكان وجرّدوا الشارع من اسمه الذي لم يعد يحمل مُلك العرب! والنسمات إن توالت عليك، ستذكركَ أن الذين بنوا النّصبَ حينها ارتأوا أن يجعلوا في نهايته انكساراً معماريّاً، فقرأوا به انكسار حيفا...!

هنا، في المدينة التي تنزّلت بِكَ، إن تحايلت على الوقت لتعرف الزمن، ستجدُ منه اثنين: ذاك الذي توقف ولا يزال وجه عقربه المدحور ينبثق من ثالوث البحر والسّهل والجبل، وهذا الذي تودّ لو تسأله كيف جاء بك حذاؤك العسكريّ وقد خلع نبيّ الله موسى نعليه من قبل.! فتجد نفسك مُدركاً لأول مرة، كيف تحلّ الخسارة بفوارقها ومفارقاتها، فتودّ لو تضرب النّرد المتوجسّ من طاولة الشطرنج عرض الحائط!

الزمن في حيفا يتناحر مع وقته مرتقباً موعداً مُرتجى، كالملامح في شرقنا إذا بانت عليها التّجاعيد تتذكّر فجأةً، الزّمن الذي مضى بها ولم يمضِ إليها... إن جذبتك المساحات المُجهضة، أو ناداكَ شارع مهوّد الاسم والمَلقى نحو مسجد الجرينة، سيقول لك الوقت حينها - رغماً عنه أنّ المساجد في البقاع المسلمة عمارتها الانتصار قبل أن تكون بنياناً.

ويروي لك المسجد الذي لم تسلم حجارته من الهدم، حقبة العثمانيين حين بنوه احتفاءً بالقائد "حسن الجزايرلي" بعد أن استطاع إيقاف امتداد الحاكم الفلسطينيّ "الظاهر العمر" الذي حرر طبريا وحكم الجليل مقاوماً في عهد السلاطين.

عند المسجد، وأنت تبحث عن مئذنته التي هُدمت حين قُصفت المدينة، سيكون عنقك على موعدٍ مع امتداد يحكُم البصر، حيث يستقِر فوق المسجدِ برج الساعة، وهو واحد من مائة أخٍ له استقرّوا في أنحاء الامبراطوريّة العثمانيّة عام 1901. فيعودُ الوقت إليك مرغماً ويحدّثك أن سبعة أخوة لهذا البرج يعيشون في الوطن الفلسطينيّ؛ الناصرة وصفد، عكا ويافا ونابلس، وفي القدسِ أخ لهم، قد استشهد حين هدمته القوات البريطانيّة عندما دخلوا المدينة...!

كان البرج بطوابقه الستّة أعلى برج في حيفا، يحدّثك الطّابق الثاني بلوحة من الشّعر أنّه انتصب هنا لأنّ سلطاناً يُدعي عبد الحميد الثاني قد وافق عيد جلوسه على العرش ربع قرنٍ من الزّمن، وإن طرقت الطّابق الرابع ستغوينّك شرفاته بامتداد الفاتنة التي يسكنها... حيفا التي دللها الزّمن بأربع ساعات على جوانب البرج، تجرّعت زمناً من طمس المعالم والملامح؛ ملأوها دوائر حكوميّة شاهقة تحيط بالبنيان لتُخفيه... لكنّ الحجارة التي تُخفى لن تُخفي معها من وطن التاريخ والحضارة شيئاً...

وأنت تجوب شوارعها ستدرك أن ليس ثمّة مدينة تحضُرها فيُخيّل لك أنّك تمتطي جواداً ومن على الجوادِ عرشاً، إلا حيفا. يعود بك التاريخ إلى فتح الخطّاب لها على يد "عمر ابن العاص" عام 633 ميلاديّ، فتودّ لو تمسك سوطاً وتصيح: اجلدوا الذين أفقدوا الصّهيل العربيّ جواده، وأضاعوا السيادة...

حين تسير في شرقها المشرف على البحر، لا بدّ أن تمرّ بمسجد الاستقلال، بناءٌ أثريّ، نجا من الدّمار حين اُحتلت حيفا وهوت مآذنها وصُمّ فيها الآذان. هناك حيث الحجرُ، النّقشُ، المنبرُ، السّاحة والنوافذ المعتّقة تتلفظُ رهبة الشّهيد "عزَّ الدين القسّام" حين كان يعتلي المنبر، فيمتلئ المسجدُ وتكتظّ الزوايا؛ ليمتد الشارع الخافق بقلوب المصلين الوافدين من حيفا وجاراتها ويصير هو الآخر مسجداً.

في حيفا لا بدّ لك أن تلقى جرس كنيسة مكلوماً على المساجد والكنائس والمقابر التي انتهكت وجُرّفت، وظلّ الألم حاضراً حين مُنع أهلها من ترميمها أو الدّفاع عن قُدسيّتها. هنا، إن وجدت سوراً ناقصاً مهدوماً أو منقوص الامتداد أمام بيتٍ يهوديٍّ تحسس حينها ملامحك العربيّة غير مكتملة النّماء ...

وأنت تجوبُ خاصرة المساكن التي تقربُ الشاطئ المتوسط، يستدرجُك صدى النّحيب القادم من الميناء، فترى المجد مرفأ ينتحبُ ذكرى من غادروه. تجول هناك روح سفن قد رُحّلت فصارت مُخيّماً إلى صيدا، وأنينُ ألف حمامةٍ مذعورةٍ قد استقرّت على أغصان الشّام التي ذُبحت من القهرِ... الميناء في حيفا يرتدي زيفهُ، يلبِسُ بوصلة تُشركُ بالشّرق، ويكفرُ بمرفأ شريفٍ كان يُشاطرهُ انتصاراته... الميناءُ في حيفا مجهضُ الذاكرة ... علّموه كيف يتناسى عيون صياد فلسطينيّ قد ذبلت وهي تنتظرُ...

والبحر هناك حين تلقاهُ ستجدهُ غارقاً في امتداده، مُبعداً، مدحوراً لا يُسعفه موجهُ أو عقد من صدفاته أعدّه قرباناً للمدينة المُنزلةِ بثوبها. فتسأله منادياً: أَيّها المتوسط الذي يعُربد على المسافة بين الشّرق والغرب ما لي أراكَ تلوب أمام خاصرة الشاطئ ومنحدرات الكرمل...! وسرعان ما تأتيكَ الإجابة بالموج عند قدميك منتحباً...

حيفا امرأة لن تغفر، للموت الذي داهم الحياة فيها، ولن تغفر بالطبيعة التي استأصلوا رحمها وتبدّلت بساتينها وثمارها وغمارها، لن تغفر بالحكايا التي رأتها تكبر على صدرها وحُرمت من الإيناع أو الهرمِ، ولا لصوت قذيفة حالت دون لقاء هتاف المؤذّنِ بأوتار الجرس، لن تغفر حجارتها التي اُجتثت، وحضارتها التي سُلبت، معالمها التي اُغتصبت، ولغتها التي ألقيت في جُبّ الليل، حيفا لن تغفر الشّارع الذي سُرق اسمه وأُسقط عنه التاريخ والإنسان، لن تغفر عيونها التي غادرتها مع عكا حين صُلبت، وبواخرها التي لم تعد تنقل البرتقال من يافا، لن تغفر لجدران الإسمنت التي أزالت عن جبينها صورة الفلسطينيّ وقَبِلَت أن ترتدي صور المحتلّ ببذّة العسكر، حيفا لن تغفر للريح التي هبّت من أعالي الكرمل وقذفت بأبنائها إلى البحر الذي اقتادهم، فخانها في نيسان، شهر زهر اللوز الذي حُرّمت فيه الخيانة...

(فلسطين)

دلالات

المساهمون