العدالة الانتقالية في تونس بين الوهن والتشوه

العدالة الانتقالية في تونس بين الوهن والتشوه

06 اغسطس 2015
مشروع القانون على أعتاب البرلمان التونسي (Getty)
+ الخط -
زرعت الثورة التونسية بذور الأمل في مختلف فئات الشباب التونسي الحالم الذي شحنته الثورة بشوق العدل والمساواة وشغلته لهفة الانتصار على الظلم من الانتقام من عقود الفساد والاستبداد وسياسات التهميش والحرمان الممنهج، ثقة في بنود دستور الجمهورية الثانية الذي يضمن أن الدولة تلتزم بتطبيق منظومة عدالة انتقالية تقطع مع الماضي وتؤسس لمستقبل جديد، إلا أنّ البعض اعتبرها أضغاث أحلام خصوصاً أنّ مسار العدالة الانتقالية كان متعثراً ورهينة لإرادة سياسية ولتوافقات جماعية عدلت دون استكمالها لسبب أو لآخر.


فقد أعلن رئيس الجمهورية التونسية الباجي قايد السبسي منذ مدّة وجيزة عن مبادرة تشريعية أثارت جدلاً واسعاً في الساحة السياسية التونسية وأوجد لها البعض تداعيات قانونية ودستورية واجتماعية سيئة فإطلاق مبادرة المصالحة الاقتصادية صنفت عند العديد تطبيعاً مع منظومة الفساد وتنازلاً عن محاسبة من خولت لهم أنفسهم إهدار المال العام وهضم حق الشعب، معتبرينها سيراً بخطى ثابة نحو إعادة منظومة المال والاقتصاد التي أنهكت البلاد وأفقرت العباد.

لمحة عن أسباب إصدار رئاسة الجمهورية التونسية لمبادرة المصالحة:
يرمي مشروع القانون الواقف على أعتاب البرلمان التونسي إلى سنّ إجراءات خاصة للمصالحة في المجال الاقتصادي والمالي وإلى تدعيم العدالة الانتقالية في مجال الانتهاكات المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام والعمل على إنجاح مسارها، وذلك أخذاً بعين الاعتبار خصوصية تلك الانتهاكات من ناحية، والتداعيات السلبية لطول آجال معالجتها على مناخ الاستثمار وثقة المواطن في مؤسسات الدولة من ناحية أخرى، من خلال وضع نظام فعال لمعالجة هذه الانتهاكات يفضـي إلى غلق الملفات المتعلقة بها نهائياً وطيّ صفحة الماضي تحقيقاً للمصالحة باعتبارها الغاية السامية للعدالة لانتقالية.

ووفق ما ورد في وثيقة شرح الأسباب يكرّس مشـروع القانون، أسوة بعديد التجارب المقارنة، عدالة تصالحية في مجال الانتهاكات المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام مع الحفاظ على كشف الحقيقة وجبر الضـرر المالي ويعتمد إجراءات خصوصية وآجال مختصرة تستجيب لمتطلبات تهيئة مناخ ملائم للاستثمار وتعزيز ثقة المواطن في مؤسسات الدولة.

كما أنه وفي السياق ذاته المتعلق بالمصالحة الهادفة إلى انعاش الاقتصاد الوطني أقّر المشـروع عفواً عن مخالفات تراتيب الصـرف بغرض استيعاب الموارد من العملة الصعبة الموجودة خارج الدورة الاقتصادية وتوظيفها في تمويل الاقتصاد الوطني.

ويتضمن مشروع القانون إقرار الإجراءات الخاصة الآتية:
أوّلاً: بالنظر لطبيعة منطومة الفساد السائدة وسعياً لإعادة بناء مناخ الثقة في الإدارة ومراعاة لمبادئ العدالة والإنصاف، تمّ إقرار عفو لفائدة الموظفين العموميين وأشباههم بخصوص الأفعال المتعلقة بالفساد المالي وبالاعتداء على المال العام ما لم تكن تهدف إلى تحقيق منفعة شخصية ولذلك تمّ استثناء الرشوة والاستيلاء على الأموال العمومية من الانتفاع بهذه الأحكام.

ثانياً: فتح إمكانية إبرام صلح بالنسبة للمستفيدين من أفعال تتعلق بالفساد المالي وبالاعتداء على المال العام: ويشمل الصلح الأموال والممتلكات التي لازالت ضمن ذمة المعني بالأمر وبذلك لا تدخل ضمن دائرة الصلح الأموال والممتلكات التي تمت مصادرتها لفائدة الدولة.

وتضمن مشروع القانون إحداث لجنة صلح تتعهد بالنظر في المطالب التي يتقدم بها المعنيون بالأمر التي تتضمن وجوباً بيان الوقائع التي أدت إلى تحقيق المنفعة المتحصل عليها وقيمتها وبذلك يتم ضمان كشف الحقيقة إحدى مكونات منظومة العدالة الانتقالية. وتبت اللجنة في مطالب الصلح في أجل لا يتجاوز، ثلاثة (3) أشهر قابلة للتمديد مرة واحدة لنفس المدة.

وتقدر الأموال المستولى عليها أو الفائدة المتحصل عليها وتعرض على المعني بالأمر إبرام صلح في شأنها يتجسّم في دفع مبلغ مالي يعادل قيمتها تُضاف إليه نسبة محدّدة عن كل سنة من تاريخ حصول الاستفادة وبذلك يتحقق جبر الضرر عملاً بمنظومة العدالة الانتقالية.

وتساهم هيئة الحقيقة والكرامة في هذا المسار حيث تضم لجنة الصلح من بين أعضائها عضوين عن الهيئة كما يحال لهذه الأخيرة تقرير لجنة الصلح الذي يتضمن حصيلة أعمالها لاستغلاله في إعداد تقريرها الختامي.

ثالثاً: إقرار العفو عن مخالفات تراتيب الصـرف.. يهدف هذا الإجراء إلى تسوية الوضعيات العالقة وتعبئة موارد من العملة الصعبة لفائدة الدولة وللانتفاع بهذا الإجراء يجب التصريح بالمكاسب والمداخيل ودفع 5% من قيمتها ويمكن في المقابل إيداعها في حسابات خاصة بالعملة أوبالدينار القابل للتحويل أو إحالتها بالدينار بسوق الصرف.

وإنْ تمّ ضبط كلمات دقيقة خلال شرح أسباب بعث هذه المبادرة، إلاّ أنها لم تكن حائلاً أمام سيل الانتقادات التي طالتها، فقد اعتبر العديد من النقاد أنّ هذه المبادرة ترمي إلى اخراج المصالحة في جرائم الفساد المالي والاعتداء على المال العام من إطار العدالة الانتقالية ومن صلاحيات هيئة الحقيقة والكرامة وهو ما سيفقدها فعاليتها ونجاعتها.

فقد شهدت تونس بعد الثورة مساراً شاملاً وتشاركياً للعدالة الانتقالية الذي اقترن بالعديد من الإجراءات التي تصب في خانة العدالة الانتقالية، من ذلك محاكمة عدد من قياديي النظام السابق وتمرير قانون العفو العام الذي تم إقراره لفائدة المساجين السياسيين السابقين إضافة إلى إطلاق عدد من المبادرات المتنوعة التي تخص البحث عن الحقيقة وجبر الضرر، ما وهن من بنود مسار العدالة الانتقالية والدفع نحو مصالحة رجحته فئة كبيرة على أنه تبييض وعفو عن مرتكبي الانتهاكات المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام.

آراء ومواقف سياسية تونسية:
دعت المعارضة التونسية إلى سحب مشروع قانون المصالحة الوطنية باعتبار أنّ هذه المبادرة تحمل في طياتها تداعيات خطيرة على أمن البلاد ووحدتها.

مؤكدة على أنّ هذا القانون (رسكلة) للفساد، كما طالبت التونسيين بالتحرك ضد هذا المشروع والتظاهر بكامل جهات البلاد لإسقاطه وعدم عرضه على مجلس النواب.

واعتبر شق آخر من المعارضة أنّ هذه المبادرة مخالفة للفصل 148 من الدستور الذي ينص على أن الدولة تلتزم بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية، وأنّ الإعلان عن هذه المبادرة أخرج موضوع المصالحة الوطنية من أيدي هيئة الحقيقة والكرامة ومنحها للإدارة، من جهة وأنها قد تؤدي إلى تضييع فرصة على الدولة للحصول على التعويضات الضرورية من جهة أخرى.

من جانبها أصدرت هيئة الحقيقة والكرامة في تونس بياناً تساءلت فيه عن المعنى الذي يكمن وراء إطلاق مبادرة مصالحة، خصوصاً أنه لم "يتم تشريكها في إعداد مشروع القانون ولم يتم تسليمها نسخة من مسودته في طور متقدم من الصياغة، في حين أن الهيئة هي الطرف المعني بشكل أوّلي بكلّ ما يتعلّق بالعدالة الانتقالية. منطقياً، كان يجب أن تكون هيئة الحقيقة والكرامة شريكاً أساسياً في مرحلة التفكير، ذلك أنها الجهة المخولة بموجب قانون تأسيسي، كما اعتبرت بأن الثقافة التي تطبع هكذا تصرّف هي أبعد ما تكون عن مبادئ الشفافية، والحوكمة الرشيدة والتعاون بين المؤسسات".

و"بدى للهيئة بأن السلطة التنفيذية تتصرّف بشكل متسرّع وغير مناسب، فهي متيقنة بأن الجهات التشريعية سوف تأخذ ما يلزم من الوقت ومن التدابير المناسبة للاستماع للهيئة وتبادل الآراء بشأن المخاطر الحقيقية التي تهدد العدالة الانتقالية من ناحية والانتقال الديمقراطي بشكل عام من خلال هذا القانون".

من جهة أخرى أجمعت شريحة كبيرة من المنتمين إلى الائتلاف الحكومي أن تونس بحاجة ملحة الى المصالحة الوطنية في ظل الوضع الأمني والاقتصادي والاجتماعي المتردي.

وأخيراً وفي حال قبول هذه المبادرة ستظلّ حقيقة الانتهاكات وطريقة عمل أجهزة النظام والمسؤولين السابقين مخبأة داخل صندوق أسود يحجب رؤية حجم القهر المادي والمعنوي الذي سُلِّطَ على التونسيين وستضرب المصالحة قانون العدالة الانتقالية الذي تضمن عديد الأهداف والإجراءات، منها العمل على تفكيك منظومة الاستبداد والفساد من خلال الكشف عن حقيقة الانتهاكات، وإقرار مبدأ عدم سقوط الدعاوى الناجمة عن الانتهاكات بمرور الزمن فضلاً عن عدم مجابهة الضحايا باتصال القضاء، بالإضافة لإحداث هيئة الحقيقة والكرامة التي تتمتع بسلطات كبيرة، عرضَ الحائط وترميه في غياهب التاريخ وتنثره في ثنايا النسيان لترفرف المصالحة عالياً قاطعة مع أرشيف قاتم ومبشرة بمستقبل خال من الشوائب لا ماضي له.

(تونس)

المساهمون