دعوها تُسافر

دعوها تُسافر

29 أكتوبر 2015
دعوها تُسافر (العربي الجديد)
+ الخط -

سألتُها "ما رأيك بسفر المرأة لوحدها؟" أجابتني "حصلت على منحة جامعيّة وأنا طالبة، ورفض أهلي. الآن عمري ستون عاماً وأرفض سفر بناتي. أربعون عاماً يا آلاء وأنا لا أعرف لماذا لم أسافر؟ ولماذا أمنع بناتي من السّفر؟".


ولأجل هذا الغموض، ولأجل ذلك الفضول الممتدّ لأعوام، ولأجل خوفي أن أنظر إلى الوراء ثلاثين أو أربعين عاماً وأنا على حالي من الجهل في ديني، أكتب هذه التساؤلات.

نحن في ديانة تحضّ على التفكّر، والبحث، وعلى استخدام تلك اللّفائف العقليّة التي وضعها الله في رؤوسنا، وألاّ نمشي على ما مشى عليه آباؤنا الأوّلون فقط لنرضي المجتمع والعادات والتّقاليد، والتّي وُجِد كثير منها للحدّ من حريّة حركة المرأة، والتّقليل من القرارات التّي تتخذها هي لوحدها، وزيادة الحريّة لدى الرّجل دون أيّ مرجعٍ دينيّ يحضّ على ذلك.

وفي ذات الوقت، أنا لست من الحركات النّسويّة التي تطالب بحقوق المرأة، وخاصّة من كان وليداً في المجتمعات العربيّة. فكيف بمسلمة أن تنضمّ لهذه الجمعيّات وهي جمعيّات لم تُحضِر أيّ جديد؟ فالعدالة فرضها الإسلام علينا قبل أن تظهر أيّ جمعيّة تحمل شعارات وتجوب شوارع المدن، ولكن أعود لنفسي وأقول: "ليست كلّ النّساء تتمتّع بما منحنا إيّاه الإسلام، ولكل النّساء الحقّ بالاستمتاع بكامل حقوقهنّ وطريقة المطالبة بذلك تختلف". لست "فيمينست" إن كنتم ستصفونني بِها، فالمرأة بكت لأجل رفع الظّلم عنها وناضلت لذلك قبل أن يتحدّث أيّ منّا اللّغة الإنجليزيّة.

لطالما عشقتُ السّفر، لطالما رأيتُ أنّ الحياة أوسع من أن نجول في نفس الشّارع ذهاباً وإياباً من بيتنا إلى المدرسة طوال عشرين عاماً، ومن ثمّ من بيت الزّوجية إلى العمل باقي العُمر. نقرأ كتباً ومجلّدات ضخمة عن أهميّة السّفر، وفائدته. معظم من أتونا بالعلم قديماً عُرفوا بالترحال والتّنقل من مدينة إلى أخرى لأعوام، وعرفوا لأجل ذلك التّرحال بالحكمة والذّكاء والمسؤوليّة ووفرة المعرفة.

إن أردت أن أحصي عدد الدّول التي سافرت إليها، سأعدّ هنا تلك التي سافرت إليها لوحدي بهدف العمل أو الدّراسة، وهي سبعُ دول في أربعِ قارّات مختلفة، وبعض من هذه الدّول زرتها أكثر من ثلاثِ مرّات. هذه الأسفار لم تكن بهدف السّياحة العائليّة أو بهدف زيارة الأقارب، ولم تكن مع زوجٍ أسافر معه، يدفع تكاليف سفري، التقط صوري معه وأعود للمنزل، وبالتّالي كان التّخطيط لها والهدف منها يختلف اختلافاً تامّاً عن التّخطيط للسّفر بهدف العائلة.

تسألني العديد من الفتيات: "ما حُكم السّفر؟ لقد رأينا لك صوراً في إيطاليا". لا أجيب بفتوى، فأنا لستُ أهلاً لذلك، ولكنّني أهلٌ لأن أتركهم مع بعض الأسئلة لعلّهم يجدون لها إجابات في مكان ما أو في جعبة أحد ما فيسعفون بها البقيّة مِمَّنْ حَكَم عليهن المجتمع اللّاديني:

- ما هو أصل منع المرأة من السّفر دون مُحرم؟ ما السّبب لذلك في زمن الرّسول الكريم عليه السّلام؟ وعندما نقارن أسباب المنع في ذلك الوقت، فهل ما زالت نفسها الآن؟ من زمن ترحال، ومشاق سفرٍ، وخوف من رِفقة سيّئة..إلخ؟

- ماذا عن المرأة التي خُلقت دون مُحرم؟ لا أب يرعاها ولا أخ يسافر معها؟ وماذا إن خُلِقَت وكلّ محارم الدّنيا حولها ولا أحد يريد السّفر معها؟ فهل لأنّها مسلمة تخاف الله تحرِم نفسها من السّفر لأنّ أخاها ليس لديه رغبة في ركوب الطّائرة؟ أوّ أنّ والدها مشغول؟ وماذا عنها هي؟ وعن رغباتها هي؟ وحاجاتها هي؟ فهل حقّاً يرتبط مصيرها برجل المنزل؟ في حال غضب يقول لها "والله ما أنا مسافر معك. دبري حالك!"؟

- العِلمُ والدّراسة والنّمو والمعرفة: في زمن قلّ فيه العلم في دولنا، وأصبحت من الدّول المتخلّفة علميّاً وثقافيا مقارنة مع دول العالم الأوّل. ماذا إن حصلت فتاة ما على منحة دراسيّة في جامعة مهمّة؟ في بريطانيا مثلاً أو ألمانيا، وبالطّبع لأربعةِ أعوام أو أكثر. من ذلك المُحرم الذي سيترك أموره وأشغاله ليرافق أخته أو زوجته او ابنته لتحقق هي رغبتها؟ تماماً كما كان سيسافر هو لو هو من حصل على المنحة، حيث سيأخذ حينها زوجته أو عائلته أو ابنته أو حتى يتركهم ويسافر لوحده. بالإضافة إلى ذلك، هل لأنّها مسلمة تخشى ربّها سيُكتب عليها الحرمان من أهم منابع العلم والثقافة في العالم؟ سيحرم عليها أن تُبدع فيما تُحب؟ لنقل إنّ فتاة ترغب بدراسة العلوم الرّقميّة والتكنولوجيّة، فماذا ستفعل بذلك العلم وهو غير متوفّر كتخصّص بتقنيات عالية في مدينتها؟ ألا نحتاج إلى المزيد من المسلمات الرّائدات في هذا المجال؟ أو في مجال الكيمياء أو الفيزياء والاكتشافات العلميّة؟ هل يُعقل أن تتمتّع غير المسلمات بأفضل علم وثقافة ومكتبات وتجارب وتقنيّات وخبرات وعلاقات مهنيّة، لأنّه لا يُشترط في سفرهن توافر المحرم ؟ هل غياب هذا الشرط يحرم المسلمة من كلّ ذلك؟ وهل كُتِب العِلم المُمَيّز على الذّكور دون الإناث؟

- "بتسافري مع زوجك": هذه الجُملة أكاد أقسم أنّ كلّ فتاة سمعتها من أهلها عندما تم رفض طلب سفرها. عزيزتي الأم، عزيزي الأب: هل تعلمان علم اليقين كيف سيكون زوجها؟ هل تعلمان علم اليقين أنّه سيفي بوعده في فترة الخطوبة وسيأخذها لِتُحقّق رغباتها في الدراسة أو العمل أو حضور الورشات أو المؤتمرات؟ كم من صديقة أعرفها، وَعَدها فارس أحلامها، أنجبت له طفلاً، وأخبرها "رجلك على رجل طفلك". أيعقل هذا؟ أنتَ يا زوج، هل تستطيع السّفر إلى مؤتمر وعلى كتفك طفل؟ ستقول لي هي "أم" وأنا رجل تقع عليّ مسؤوليّة النّفقة، وأقول لك هل رحلتك إلى شرم الشّيخ مع أصحابك أو بقاؤك معهم في العقبة ولليالٍ جزء من عملك؟

وفي بعض الأحيان تتزوّج الفتاة، وفي يومٍ ما تفاتح زوجها بموضوع سفر لها لأجل هدف ما فيقول لها "ما سافرتي عند بيت أهلك، بدك تسافري ببيتي؟"، أو يقول لها "لا، شو رأيك أترك كل مشاغلي وأجي معك وإنتي بالجامعة أنا بكون أكش دبّان؟"

- وأحيانا أفكّر بالأمر بطريقة مختلفة: أنا أسكن الآن عمّان، لنقل مثلاً أنّ عائلتي جميعها قرّرت السّفر وتركتني في المنزل لوحدي. هل هذا حرام؟ والآن لنقل إنّ والد فتاة ما رافقها على الطّائرة إلى أن وصلت سكن الجامعة واطمأنّ على المكان وعاد إلى وطنه، يزور ابنته في مكان إقامتها الجديد كلّ شهرين أو ثلاثة مرّة، هل هذا حرام؟ ففي الحالة الأولى والثّانية هي لوحدها في المنزل. هل هو حلال إن وُلِدَت في الدّولة أن تبقى لوحدها في المنزل؟ وإن لم تعِش فيها سابقاً يصبح حراماً؟ سيقولون إنّه في الحالة الأولى إن وقعت مصيبة فهناك من ينجدها، فأقول ليس بالضّرورة. لي صديقة تزوّجت وانتقلت مع زوجها إلى السّويد، يسافر لشهر كامل كلّ ثلاثة شهور، وهي لا تعرف أي إنسان هناك. هل هذا حرام أم حلال؟ أم لأنّها متزوجة يصبح حلالاً؟

- ماذا عن المرأة الأرملة أو المطلّقة؟ والتي تركها زوجها مع طفل لم يبلغ عمراً ليكون "مُحرماً"، هل تترك كامل حياتها، عملها، وعلاقاتها، لتعود لبيت والديها وتبدأ من الصّفر من جديد؟ هل حرام أن تبقى لوحدها؟

- لماذا لم يُذكر التّحريم في القرآن؟ رغم أنّ معظم الكبائر والمحظورات لها نصوص قرآنيّة واضحة وفي السنّة الشّريفة. ومعظم الكبائر إذا ما تم تحليلها فيكون السبب إنقاذ حياة. فيسمح بالخمر إن كان الأمل الوحيد للنجاة، ويسمح بخلع الحجاب إن كان لبسه خطراً على الحياة..الخ. سيخبرني البعض عن الآية الكريمة "وقرن في بيوتكن"، فقد نزلت على زوجات الرّسول عليه السّلام وليست على جميع النّساء. ولماذا لم يرد سبب لهذا المحظور "السّفر"؟ بينما حظر الخمر لذهاب العقل، وحظر الزّنا بسبب الأمراض واختلاط الأنساب، وحظر السّرقة والكذب لمنع الفساد..إلخ. ألا تحتاج المرأة إلى أن يكون هناك سبب غير "حتى لا تنتشر الفتنة" يُريحها عندما تفكّر في كلّ تلك الأمور، التي لم تستطع القيام بها بسبب هذا الحُكم؟

- "ما حرم لذاته لا يباح إلا للضرورة، وما حرم لسد الذريعة فيباح للحاجة ": من يُقرّر أن حاجتها أهمّ من حاجتي؟ فيفتي لها ولا يفتي لي؟ فقد أرى السّفر لأجل الدّراسة أهمّ من السّفر لأجل المشاركة في عرس قريبة لي حتّى ترضى عنّي العائلة، أو العكس. ما مقياس الضّرورة والحاجة؟ الحياة والموت؟

- هل فِعلاً النّساء في السّفر يجلبن الفتنة؟ فكم من فتاة تخاف أن تتزوّج شابّاً مغترباً لأنّه لا يعلم ما حصل في غربته إلا الله وهو. وهل روّاد بيوت الدّعارة في بعض الدّول الأوروبيّة والآسيوية، من الرّجال العرب أكثر أم النّساء العربيّات؟

- لنقل جدلاً أنّ هناك من يعتبر الرّجال أصحاب فطنة تزيد عن النّساء، فأقول: هل على الرّجل أن يتم اختبار مستوى ذكائه قبل سفره؟ أم كلّهم أذكياء ولا مجال للنّقاش؟ هناك رجال إن تركتهم زوجتهم يوماً دخلوا في ديون لا تنتهي، وهناك شباب إن لم تكن والدته معه طوال فترة الجامعة لما نجح في مادّة واحدة منها.

- سيقولون المرأة لا تتحمّل مشاكل وصعوبات السّفر. مثل ماذا؟ حمل الحقائب؟ لا أتذكّر أنني حملت حقيبة واحدة في ظلّ وجود هذه الخدمة في كل مطار وفندق. الانتقال من مطار إلى مطار؟ لا أعتقد أنّ الموضوع أصعب من الانتقال في ثلاث أو أربع وسائل مواصلات للوصول إلى الجامعات في المحافظات الأردنية. التّعامل مع منطقة جديدة؟ لماذا هل تحفظ أنت خارطة العالم وهي لا؟ أم أنّك تتحدّث كل اللغات بينما هي لا تتحدّث سوى لغة المطبخ؟ المشي في مدينة غريبة؟ هل هو أسلم من المشي في شارع في حيّ عربيّ ليلاً؟ أم أنّنا سنحرّم ذلك أيضاً؟

- يسافر الشّاب "المُهمل" في الجامعة مثلاً ويقول والده "لعلّه يرجع سويّا متحمّلاً للمسؤوليّة"، بينما تُحبس الفتاة المُهملة بين جدران منزلها بانتظار فارس أحلام أهلها. هناك من يمنع ابنته لمعرفته بأنّها غير مسؤولة، ضعيفة الشّخصيّة، تتصف بالطّيش، ولكن إن كانت هذه صفات شاب فسيسافر إن أراد ولن يقف في طريقه أحد. ألأنّه ذكر "لا يعيبه شيء" وهي أثنى "يعيبك كلّ شيء"؟

- تخاف على ابنتك؟ على زوجتك؟ فتحرمها السّفر؟ هي تخاف عليك، وأنتَ كلّ يومٍ في مدينة. هل عدل أنّ خوفك غير المبرّر بسبب موضوع الفِتَن وكثرة القصص في صحف "الحوادث" يحرمها من أمرٍ يهمّها هي؟ بينما أنت لا تكترث لخوفها عليك وتقول لها "ولا يهمّك، أنا بنخافش عليّ".ألهذه الدّرجة لا تثق بقدرتها على اتّخاذ القرار؟ معايير مزدوجة؟

- سيقولون "نحن عرب وشرقيون ونساؤنا لم تعتد على هذه الأمور" فأقول، هل كلّ المسلمات شرقيات؟ هل كلهنّ عربيّات؟ وسؤالي هنا، عندما تعتنق امرأة ناجحة الإسلام، وفي عملها السّفر الكثير، فهل فِعلاً ستتخلّى عن ذلك لأجل الإسلام، أو لنعكس الأمر، هل ستقتنع بدين يخبرها أنّ بقاءك في المنزل أولى من أن تكوني مؤثرة اجتماعيا وعالميّا؟ سيقولون "دورها تربية الأجيال"، فأسأل هنا، هل رزق الله جميع النّساء أطفالاً؟ هل رزق الله جميع النّساء أزواجاً؟ أم يُطبّق الدين في الشّرق ولا يطبّق في الغرب؟ يُطبّق على المتزوجة ولا يطبق على العزباء؟ والأغرب من ذلك أنّ المواقع والصّفحات الإسلامية باللّغة الإنجليزيّة تُحلّل أصل السّفر إلا في حال وجود خطر بيّن، بينما المواقع الإسلاميّة العربيّة تُحرّمه إلا في حال وجود ضرورة مُلحّة. من نصدّق؟

- وسؤالي الأخير عن أول رائدة فضاء مسلمة، هل احتاجت لأحد محارمها ليذهب معها إلى الفضاء؟ ومالالا التي تدور العالم تُخبره أنّ للمسلمات الإناث الحقّ في التّعليم، فهل سيكون والدها معها في كلّ خطوة واجتماع وسفر ورحلة؟ هل تعلمون أنّكم كثيراً ما تمدحون المخترعة فلانة والمكتشفة فلانة والعالمة فلانة وهنّ غالباً ما يسافرن لوحدهنّ؟ هل كتبت رؤية الفضاء على الرّجال دون النّساء؟ هل كتبت المؤتمرات على الرّجال دون النّساء؟

هذه جميعها أسئلة، والإسلام لم يمنعنا من التفكّر والتدبّر والتأمّل والبحث. إلى الآن ورغم سفري وترحالي وتجاربي حول العالم، إلّا أنّني لم أجد إجابة تشفي لي صدري على هذه التساؤلات المشروعة، يناقشها بعض الشّيوخ بخجل وعلى استحياء وبسريّة تامّة، بينما يستطيع الكثير من الرّجال الجلوس على المنابر والمنصّات الدّوليّة والتفسّير لك لعشرات السّاعات عن سبب تعدّد الزّوجات وأهميّته. إن حَرَّمت أنتَ التساؤل في الإسلام، فقبل تحريمك ما كُتِب، أخبرني ما دليل حرمة التساؤل؟ أم أنّك تُحرّم حلالاً؟

- سيأتي لنا البعض بأحاديث يجدها في أولى السّطور عند البحث في مُحرّك البحث غوغل تحت عنوان "تحريم سفر المرأة لوحدها". أرح نفسك فقد قرأناها عشرات المرّات، فهي لم تجب عمّا ذكر أعلاه، والرّد على ما ذكر أعلاه بحديث تنسخه وتلصقه دون تفكّر بِه، ما هو إلّا ضعف حجّة وقلّة حيلة.

هناك نساء يحملن هموم الأمّة والدّين والدّعوة تماماً كالرّجال، وبعضهنّ أكثر، يردن أن يظهر الإسلام بأجمل حلّته، علميّاً ودينيّاً وثقافيّاً وفي كلّ المحافل التي حضّ الإسلام عليها، هل هذا حلال فقط إن قامت به في دولتها؟ وحرام إن لم يكن بجانبها رجل؟

(الأردن)

المساهمون