شباب الربيع ضد "الدواعش الآثارية"

شباب الربيع ضد "الدواعش الآثارية"

28 ابريل 2015
المدينة الأثرية السورية أفاميا، بتاريخ 4 نيسان /إبريل 2012.
+ الخط -
في اللغات اللاتينية حيث تنفصل الحروف وتستقلّ، ثمة أمرٌ رائجٌ؛ اختصار أسماء المنظمات والهيئات وما إليها، إلى حروفها الأولية، وتعمد وسائل الإعلام إلى استعمال تلك المختصرات بوفرة وتواتر إلى أن تستقرّ حتّى في كلام الناس اليومي. أمّا في اللغة العربية فهو أمرٌ نادرُ الحدوث واستثنائي. بيد أن ظرفنا الاستثنائي العربي أدّى على ما يبدو إلى نجاح ذلك لدينا، نجاحًا منقطع النظير؛ تحوّلت "الدولة الإسلامية في العراق والشام" من خلال، لا وسائل الإعلام بالطبع بل من خلال الوجدان الشعبي العربي الرافض لها، إلى "داعش". وممّا لا شك فيه أن اجتماع الحروف في الاسم، يُظهر على أقلّ تقدير غلظته المتناسبة تمامًا مع وجوه "داعش" القبيحة والمتعددة.
ولـ "داعش" على ما يبدو "وجه آثاري" إن جازَ التعبير، إذ يقال إن "أرباحها" من الاتجار بآثار البلدين؛ العراق وسورية المنكوبين بحزب البعث، ثمّ بها، تأتي في المرتبة الثانية بعد النفط. فعلى سبيل المثال إن كان من سبيل، حازت داعش، وفقًا لمسؤول مخابرات عراقي، على ستة وثلاثين مليون دولار أميركي من بيع قطع أثرية وتحف، سرقتها من مدينة النبك الواقعة غرب دمشق.
داعش تسرق الآثار وتبيعها ووسائل الإعلام تنقل الخبر. لكن خلف داعش ذات الوجه الآثاري، ثمة "دواعش آثارية" لا تحوز رتبة العناوين في الصحف الكبرى، عربيًا وعالميًا، ولعلّها هي الأسوأ، إذ تعمل في ظلام الإعلام أو تعتيمه، ودونها شبكات منظمة ودقيقة من المحترفين، بدءاً من المغبّرين المعفّرين العاملين في النبش، وصولًا إلى المتأنّقين المهفهفين في دور المزادات العالمية، وبينهما سلسلة طويلة من الخبراء و"هواة" الفن والآثار.
"الدواعش الآثارية" هي الأسوأ على ما يبدو، فهذا ما تخبّره على الأقلّ الصورة أعلاه: إنها المدينة الأثرية السورية أفاميا، التي سمّيت على اسم "أباميا" زوجة مؤسّسها الفعلي السلوقي؛ سلوقس الأوّل نيكاتور. أفاميا وقد تخدد وجه أرضها بخمسة عشر ألف حفرة، من جرّاء آلات حفر اللصوص المحترفين لما تضمّه في ثنايا ترابها من كنوز وآثار. 
كثيرةٌ هي المواقع الأثرية السورية والعراقية التي تتعرّض لنهبٍ منظّم ومهول منذ سنوات أربع، وفي ظلّ قتل البشر المعمم في البلدين، قد يبدو الحديث عن آثارهما البهية والغنية، أمرًا نافلًا. 
بيد أن طرح الأمر على هذا النحو لا يصبّ في حال من الأحوال في مصلحة "الربيع العربي"، وهو ما يفرحُ كارهيه، بيد أنّه يغفل، من دون قصد ربّما، معنى المواطنة الكامن تحت شعارات "الربيع العربي" الرائجة. 
لا يرد تعبير "معنى المواطنة" في هذا المقال، من قبيل التنظير قطعًا، بل يأتي من قصّة حقيقية: ففي نهاية عام 2012 بادر الدكتور في علم الآثار، السوري عمرو العظم، رفقة سوريين من "رجال الآثار" (تسمية أطلقت على الذين أنقذوا بعض التراث الأوروبي أثناء الحرب العالمية الثانية) لإنقاذ لوحات الفسيفساء الموجودة في متحف مدينة معرّة النعمان في الشمال السوري، التي كان يعرفها عمرو جيدًا، فقد عمل في توثيقها من قبل. أكياس الرمل حول اللوحات القديمة ذات الألوان المشعّة، حفظت بعضها، بيد أن غيرها تمّ نهبه كما لا يخفى. سنونوة واحدة لا تصنع الربيع، لكنّها تبشّر به، فتكوّنت شبكة من الناشطين السوريين لتنظيم العمل من أجل الحفاظ على تراث بلدهم النازف. وعُقدت الصلات الأكاديمية، فالعلم وحده هو المنقذ. وفي شهر يوليو/تموز عام 2014، وجّه عمرو رسالة مفتوحة للأمم المتحدة، طالب فيها بوضع قانون لمنع الاتجار بالآثار السورية: "آثارنا، غدت أسلحة حرب". وفي شهر فبراير/شباط المنصرم، أقرّت الأمم المتحدة القانون. الصلات مع الجهات المعنية أمرٌ أساسٌ للتكامل مع عمل الناشطين "رجال الآثار"، ليستمر ويكون مثمرًا. وزيارة بسيطة إلى موقع الهيئة العالمية للمتاحف، وموقع المرصد الاتجار غير المشروع، تبيّن أثر الجهود السورية. إذ ثمّة قائمة حمراء توثّق جزءاً من آثار وتحف ذاك البلد الصغير القتيل. صحيح أن القائمة لا تعبّر عمّا تضمّه تلك الأرض الطيبة من كنوز، بيد أنها خطوة أولى، وضرورية. خطوة أولى فعلًا، إذ تقف في مجابهتها لا "الدواعش الآثارية" فحسب، بل تلك الشبكة العالمية لبيع مسروقات التراث الإنساني.
شبكة تشارك فيها حتّى دور المزادات العالمية، التي على ما يبدو لا معايير واضحة لديها في ما يخص "شهادة منشأ" التحف التي تتربح منها .
صحيحٌ أن ضيف ملحق الثقافة عالم الآثار الأميركي ماغواير جيبسون، يقول بوجود قوانين أخيراً ضدّ الاتجار بالآثار في بلده وفي المملكة المتحدّة، ويلقي اللوم كاملًا تقريبًا على بلاده كلّما تطرّق السؤال لنهب آثار العراق التي يعرفها جيدًا، لكن الأوهام على ما يبدو لا تزوره في ما يخصّ مآل هذا الوضع الكارثي لآثار كلا البلدين. إذ لا يبدو أستاذ الجامعة القدير متفائلًا. مع ذلك، فإن اليأس "دربه سدّ" بالتعبير الشامي، وليس هذا ما جال في بال عمرو العظم، وإلا لكان اكتفى بالشجب والتنديد. الخطوة الأولى تلتها خطوات، وستجيء خطوات سنونوات أخرى، فتحية إلى عمرو العظم و"رجال الآثار" السوريين.

المساهمون