خفّة المقاوم التي لا تحتمل

خفّة المقاوم التي لا تحتمل

29 مارس 2015
"مخيّم قلنديا"، عمل إنشائي لـ وفا حوراني
+ الخط -

عاش سفيان الثوريّ متخفّياَ من بني عباس، إذ شارك بثورة يقودها إبراهيم بن عبد الله ضدّ المنصور. شوهد يوماً يقلّب عشرة آلاف درهم، وهو يقول: "لولاها لتَمَندَلَ بي بنو العباس" أي: استبدّوا به وابتزوه، وبشكل حرفيّ "لاتخذوه منديلاً" يمسحون به ما يريدون.

الدرس الذي يلقّنه الثوريّ (اسماً وصفة) هو أنّ الفعل التحرريّ إن لم يؤمّن شروط بقائه من ذاته فمصيره "التمندل"، يحضُر حين يحتاجه الآخرون ويغيب حين يصبح حضوره مبلّلاً بأكثر مما يحتمل المشهد.

وإذا كان المقاتل قد ابتكر طريقه تحت الأرض؛ لكي لا تتمندل به الجغرافيا؛ فإنّ السياسيّ مازال عرضة لهذا التمندل، حتى أصبح التنقل بين العواصم العربية، أشبه بالوقوف على أبواب السلطان. وهو أمر، ليس فقط غير لائق بمقاومة تصنع خياراتها بقوّة الحق والسلاح، بل وأيضاً مُبعثِراً لأيّ إنجاز يمكن أن يراكمه الميدان.

لامرئيّة مقاتل الأنفاق؛ مكّنته من مراوغة الطيران. والسياسة التي تتخفف من الأمكنة المادية ورواتب الموظفين، هي أسهل حركة لمراوغة الفواعل السياسية المحدّقة بها. وهذا يشير للقرار الكارثيّ بالدخول في لعبة السلطة، وماهي إلا بلدية كبرى، ولم يكن النزول عنها (تشكيل حكومة وحدة وطنية) بالسهولة التي جرى توقّعها.

يخبرنا كتاب إيفان أريغوين "كيف يكسب الضعفاء الحروب " (2014) أن العتاد الحربي كطائر "الباتروس" في قصيدة لبودلير، وهو طائر يملك أجنحة ضخمة تمنعه من الطيران.

في حرب الشيشان، عملت المدافع الروسية الثابتة ضد الروس حيث جعلت حركتهم أبطأ فسهّلت اصطيادها من قبل المقاتلين الشيشان والسيطرة عليها. وينطبق الأمر ذاته على مقاتلي المحاكم الصوماليّة، فحين سيطروا على العاصمة الصومالية "مقديشو" أصبحت إمكانيّة الإمساك بهم متاحة.

ليست الخفّة هنا هي التخفّف من مسؤوليات المقاومة تجاه المجتمع؛ بل هي تبعثرها داخله وفيه حتى تختفي الحدود بينهما. إنّها خفّة المقاوم التي لا تحتملها أنظمة الرقابة الحديثة؛ لأنّها لا تجري على أرضيّتها.

إنّ الرهان الذي نقول به - نحن أنصار المقاومة - هو أنّ طريق "الحياة مفاوضات" قد أثبت فشله. لكنّ الحرب الأخيرة على غزّة تجعل من محاججة الوسائل والنتائج محلّ شكّ؛ فنتكئ على المقاومة بوصفها خياراً أخلاقيّاً، ولا نتحدث هنا عن خطورة خسارة ميزة عقلانيّة المقاومة، أي بوصفها خياراً عقلانيّاً مثمراً، بل الأمر يتعدى ذلك للتأثير على "الأمل".

ليست غزّة اليوم إقليماً مُضافاً لمجموع فلسطين، بل هي "موقع" بالمعنى الوجودي، نطل منه على أنفسنا ونطمئن إلى وجودنا في التاريخ. وليست غزّة مجرّد شأن "إداريّ"، فوظيفة هذا الموقع أن ينتج ويعيد إنتاج الأمل باستمرار، والتلهف على مغادرته؛ لا يجعل من الخطابات البلاغيّة التي تحاط به، أكثر من ثرثرة الخائف بصوت مرتفع في حلكة الظلام.

لا يجعل هذا الوصف غزّة بداية المقاومة ونهايتها؛ لكنّه يجعلها اليوم في طليعتها. وهذه الطليعية لم تكن لتكون دون مقدّمات من التضحية مارستها جغرافيّات أخرى. فعلى سبيل المثال: ما سقط من قتلى إسرائيليين في الانتفاضة الثانية يصل إلى 1069 قتيلاً بنسبة 1 إلى 4 بالمقارنة مع عدد شهدائنا، وكان في هذه المواجهة الثقل للضّفة.

وفي الثلاثة حروب التي خاضتها غزّة وحيدة، سقط ما يقارب 100 إسرائيلي، أي بنسبة 36 إلى 1. أداء الضفة المتفوّق لا يجعلنا نرتاح لما بات يعتبر تاريخاً اليوم؛ وإنما يجعل من سؤال "ما الذي حدث للضّفة؟" أكثر جدّيّة.

سابقاً طَرحت الضّفة سؤالاً لم تأخذه على محمل الجدّ، وهو ما الذي حدث "لفلسطينيي الـ 48؟" مع أنّ بواكير العمل العسكريّ كانت من هناك. ما حدث يشير إلى عملية الاستفراد بالجغرافيا، بعدما جرى تقطيعها لجغرافيّات، وتنويع وسائل التعامل معها.

إنّ "إسرائيل" هي برنامج وجوديّ لملاقاة الآخرين ودحرهم إلى ما لا نهاية. إنها تستمد ماهيتها من إرادة حرب أصليّة في فهمها لنفسها. فيما بدا الفلسطينيون على طول مسار مواجهاتهم، يخوضون معارك يعرفون أنها ستنتهي بهدنة ما.

خسارتنا لمفهوم "الحرب المفتوحة" جعلنا نقاتل وعيننا على وقف إطلاق النار، حتى وإن كنّا لا نستجديه، إلّا أنّنا لا نتوقع غيره. لم نعتد على خوض مواجهة ممتدة ومفتوحة بدون زمن مغلق، ويعود ذلك في جزء منه للقدرة الذاتية، وجزؤه الأكبر لثقافة سياسيّة قدّرت أنّ السلاح وظيفته التحريك لا التحرير.

ولكي يعاد الاعتبار للمقاومة المسلحة كخيار استراتيجي للتحرّر، لا يكفي أن يكون أداء الميدان القتاليّ رشيقاً. لقد أعقب الانتفاضة الأولى "اتفاق أوسلو"، فيما حلّت "دولة أيلول" كطرح سياسيّ بعد الانتفاضة الثانية. في كلتا الحالتين، لم تتخلف التضحية وأداء الميدان؛ وإنما تخلّفت السياسة. وسؤالنا عن انفصال الفعل العسكريّ عن منتجه السياسيّ ليس ترفاً، إنّه الكفيل بجعلنا لا نطرح مستقبلاً سؤالاً مشؤوماً آخر: "ما الذي حدث لغزّة؟".

طرحت المقاومة أهدافاً معيشية إدارية، كالمطار والميناء وخلافه. ودون ربط هذه المطالب بسيادة توسّع من إمكانيات الفعل، جرى التعامل معها على أنها مطالب الحرب، رغم أنّ الحرب كانت دفاعيّة الطابع، أي أنها تهدف لرد العدوان. وجد السياسيّ هنا فرصة ليدلّل على فعاليّة المقاومة وقدرتها على صنع الإنجاز. لكن حدث العكس، فما كان إنجازاً على مستوى الميدان لم يعد كذلك فور ربطه بأهداف معلنة، إذ لم يكن بالإمكان تطبيقها في ظل ظروف إقليمية متواطئة.

لقد جرى الذهاب إلى القاهرة دون قاهرة تقف لصفّنا، وتم تغييب قوى اقليمية مثل إيران. وبإهمال الروافع السياسية، وَجدت الوفود نفسها ضيفاً بلا دعوة. ولأنّ السياسة هي فن استكشاف العدو - بحسب كارل شميت - فإنّ العدو هنا لم يجر تحديده بدقّة، كما أنّ الصديق لم يكن حاضراً.

ترسّخت في الثقافة السياسيّة الفلسطينيّة ثنائيّة وهميّة هي ثنائيّة: "السياسة" و"المقاومة"؛ على اعتبار فتح تمثّل الخيار الأول، فيما تمثّل حماس الخيار الثاني. فتح اختزلت السياسة بطاولة التفاوض، وجعلت الطاولة هي بداية الفعل السياسي ونهايته. بينما اختزلت حماس المقاومة بالفعل المادي على الأرض.

هل ننسى أن السلاح يثبّت حقائقه على أرض الواقع وتأتي الطاولة تتويجاً لهذه الحقائق؟ بدون مقاومة تكون السياسة فرصة للقاءات في الفنادق الفخمة، وبدون السياسة تكون المقاومة تضحيات مفتوحة لا تحمل توقيعاً خاصاً.

لا يمكن اعتبار طقوس التنقل بين العواصم العربية عملاً سياسياً تمارسه المقاومة، ولا التعويل على القانون الدولي (الذي لا يُعوِّل عليه غيرنا بالمناسبة) عملاً سياسيّاً. لقد أصبحت الممارسة السياسيّة ذاتها من اللّا مفكر فيه، ولم يطالب أحد بنتائج محددة.

لقد بدا الأمر وكأنّ الفاعل السياسيّ قد انتقل من النظر إلى السياسة على أنها سعي وراء أهداف محدّدة إلى معاملة السياسة على أنها سعي فحسب. في الواقع لقد ثابرنا على ممارسة سياسةٍ لا علاقة لها بوظيفة السياسة؛ إنها "السياسة وقد تخفّفت من وظيفتها".

(رام الله)

المساهمون