برلين والفنان

برلين والفنان

08 ديسمبر 2014
+ الخط -
مدينة فظةٌ كبرلين، صلفة، شقيةٌ أريبة، تُقرُ دومًا بما يناسبها من أمور وتطوِّح بكل ما تتبرَم به. هنا في المدينة الكبيرة يمكنك أن تشعر بالتأكيد بأمواج فكرية تغسل كحمَّام حياة المجتمع البرليني. لا مفرَّ للفنّان هنا من الإصغاء.

يُسمح له في مكان آخر أن يصم آذانه ويغرق في تجاهلٍ متعمّد. هذا ممنوع هنا. بل حريّ به أن يشدَّ من أزر نفسه باستمرار ككائنٍ بشري، وهذا الإكراه الذي يطوّقه يعود عليه بالفائدة. لكن هناك أيضًا أمور أخرى. 

لا تستريح برلين أبدًا، وهذا عظيم. يجلب فجر كل يوم معه هجومًا جديدًا -مرفوضًا بلطف- على الرضا الذاتي، وهذا يمنح إحساسًا عامًا بطيبِ الكسل. لدى الفنّان ميلٌ فطري للكسل النبيل الجميل، أكثر ما يشبه الطفل في ذلك.

حسنًا، تَصفع هذه القوقعة، هذه المملكة، باستمرار رياح عاتية جديدة من الإلهام. يتحدّث المخلوق الصامت اللبق فجأة بصخبٍ عن شيء ما فظ، صارخ، وغير لائق. هناك دوماً ضباب يلفُّ أشياء عديدة معًا، وهذا جيد، هذه برلين، وبرلين رائعة. 

ليس على السيد العظيم من الأقاليم، بأية حال، أن يتخيل مطلقًا أنه لا يوجد هنا في المدينة عزلة أيضًا. ففي الحاضرة عزلة من أكثر الأنواع فظاعة، وبإمكان أي شخص يتمنّى تذوّق هذا الطبق المختار أن يأكل الكثير منه هنا.

يمكنه أن يختبر معنى العيش في الصحاري والقفار. لا تنقص الفنّان ابن العاصمة الفرص ليرى ويتحدّث إلى أيّ كان على الإطلاق. كلّ ما عليه فعله هو أن يجعل من نفسه مجهولًا بين بعض محكّمي المذاقات أو أُخر يركّزون بثباتٍ على حالات الإخفاق، وسرعان ما سيغرق في أكثر أنواع الخذلان روعة، وازدهارًا. 

يعيش الفنان المكلّل بالنجاح في العاصمة كما لو أنه في حلمٍ شرقي ساحر. يجدُّ من بيت أنيقٍ إلى آخر ثري، يجلس بثقة إلى طاولات موسرة، وبينما يوفر له المضغ والالتهام اللهو. يقضي أيامه في حالة من السُّكر فعلية. ونبوغه؟ هل يهمل فنّان على مثل هذا الحال نبوغه؟ يا له من سؤال! كما لو أنه يمكن لشخصٍ ما الانسلاخ عن مواهبه بكلمة عن إذنك. على العكس من ذلك. فإن النبوغ يصبح أقوى بشكلٍ لا واع عندما يرمي المرء بنفسه في معترك الحياة. ليس عليك أن تكون عطوفًا، مدللًا إيّاه باستمرار كشيء سقيم. إنه يذوي عندما تهتم له باستحياء بالغ. 

مع ذلك، فيجوز للمبدع أن يتدرج صعودًا ونزولًا. كالنمر، في كهف إبداعه الفني، مستلبًا بالرغبة وقلقًا حيال تحقيق منتج جمالي ما. وطالما أن ما من أحد يرى هذا، فليس من أحد يلوّح به أمام ناظريه. أما في الصحبة، فعليه أن يكون مرحًا، دمثًا، وساحرًا قدر استطاعته، ليس شديد التقدير لنفسه ولا العكس أيضًا. أمرٌ واحدٌ ليس عليه نسيانه أبدًا: أنه يتوجب عليه أن يخطب ودَّ النساء الجميلات المقتدرات قليلًا على الأقل. 

بعد مرور زهاء خمس أو ست سنوات، سيتوّلد لدى الفنّان -حتّى وإن كان من منبتٍ ريفي- إحساسٌ بأن العاصمة هي موطنه الأصلي. سيبدو كما لو أن والديه قد عاشا وأنجباه هنا. هو يشعر بالامتنان، بالارتباط، وبأنه مدين لجلبة غريبة، ثرثارة حيوية.

كل الانطلاق والعدو السريع الآن يبدوان له نوعًا من شخصية أمومية محبوبة، غامضة. لم يعد يفكّر بالمغادرة من بعد. لا يهم إن سارت الأمور نحو الأفضل أو العكس، سواء أفشل أم نجح، لقد امتلكته، إنه مأخوذ بها إلى الأبد، وسيستحيل عليه أن يلوح لهذا القلق العظيم بتلويحة الوداع.

* ترجمة أماني لازار

المساهمون