رحلة بازوليني إلى فلسطين

رحلة بازوليني إلى فلسطين

08 ديسمبر 2014
+ الخط -
في يوميات رحلته إلى فلسطين عام 1867، ظنّ مارك توين البدو هنوداً حمراً، وذكر أن المسافات في الشرق تُقاس بالساعات والأيام، فإذا ذهب إلى خياط ليفصل بنطلوناً فسوف يخبره أن قياس خصره تسعُ ثوانٍ.

بعد قرن تقريباً، زار بيير باولو بازوليني الأراضي المقدسة بحثاً عن مواقع تصوير من أجل فيلمه "الإنجيل بحسب القديس متّى"، لأنه لا يستطيع أن يتخيّل صناعة فيلم عن المسيح بالقرب من مصانع ميلانو، فقصد أرض القداسة القديمة حيث "الضآلة والفقر والتواضع". غير أنه انتهى إلى خيبة تشابه ما يصفه مارك توين، خيبة الوصول إلى بؤسِ التحولات التي شوّهت تلك الأمكنة عبر التاريخ. 

يعلّق بازوليني بصوته على فيلمه الوثائقي "اصطياد مواقع تصوير في فلسطين" (1963). لا نراه يحدث الفلسطينيين العرب، ولكنه مع ذلك ينعتهم بالسعداء؛ إنهم بدو وفلاحون معدمون يرتدون أسمالاً في ريف مهملٍ، وفي الأزقة أطفال حفاة يلاحقون الغرباء ضاحكين. صوّر بازوليني بنفسه مشاهد الفيلم، صوّر التلال الشاحبة في وهج الشمس، والقفار التي لا ينبت فيها حتى شجر الزيتون والتين، وعلى مرتفعاتها ترددت عظة الجبل، وسأل الشيطان المسيح أن يجعل الحجارة خبزاً. 

كان في الرحلة كاهن كاثوليكي نسمعه يخاطب بازوليني بلقب "دكتور" حين يخبره الأخير، بينما القدس تلوح وراء سياج من الأسلاك الشائكة: "إن الروحانية تعبير جمالي وليس دينياً". يظهر اليهود المستوطنون البيض وقد وحّدت الكيبوتسات ملامحهم، وفي إحداها يلتقي المخرج أسرة يهودية إيطالية؛ يقول لاحقاً في سرده: "يمكن مصادفة أشباه هؤلاء بكل سهولة في ريف روما أو في سويسرا". وأمام المتزلجين على مياه بحيرة طبرية يتحدّث عن معجزة المسيح الذي سار على أمواجها. باردٌ بازوليني في تعليقاته الساخرة.

الصور التي سكنت رأسه لم تطابق أي واقع في فلسطين. ما رآه أمامه كان بعيداً عن ذهب الهالات والقديسين الذين رآهم في الأيقونات، وسمع قصصهم منذ طفولته في كازارسا، مسقط رأسه. يقارن بين ما يراه في فلسطين وبين باري وكالابريا وصقلية جنوب إيطاليا، حيث صوّر في النهاية فيلمه "الإنجيل بحسب القديس متى"، وأدّت فيه أمّه دور مريم العذراء، واستخدم "آلام القديس متّى" لباخ كموسيقى تصويرية. حاولت الفاتيكان أن تمنع عرض هذا الفيلم. 

بازوليني، الذي سرد خيبات اكتشافاته ومشاهداته في الأراضي المقدسة، زار لاحقاً سورية وصوّر في قلعة حلب مشاهد من فيلمه "ميديا" التي أدّت دورها ماريا كالاس، وعلى الأرجح لم يكن مطّلعاً على توصيف المسيح كما يورده ابن عساكر أو ابن هشام؛ لم يلتفت في فيلمه الوثائقي إلى صراع الوجود على الأرض بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

قال إن إسرائيل مغرقة في الحداثة، والعرب الفلسطينيون غارقون في البؤس، ويستحيل أن يصدق أحد أن تعاليم المسيح قد بلغت مثل هذه الوجوه. بازوليني، المفكّر المستفز والمحتج ضد الاحتضار الثقافي اليومي، الشاعر المتوقد، الشيوعي الذي طرد من الحزب وكتب قصيدة طويلة عنوانها "رفات غرامشي"، اغتيل في ظروف غامضة بالقرب من روما عام 1975.

بعد عام من رحلته تلك إلى فلسطين، مسترجعاً ما شاهده هناك متنقلاً بين المدن والقرى، تراجع عن آراء له لم تبتعد آنذاك عن إرث الكولونيالية، وكتب في قصيدته "الفجر الجنوبي": "ملايين من البشر وُظّفوا/ فقط كي يعيشوا كبرابرة/ ترجّلوا للتو على أرضٍ سعيدة،/ غرباءَ عنها وعن أصحابها".


المساهمون