عبد الكبير الخطيبي، مفكّر صالح بين الفنّ المعاصر والتراث

عبد الكبير الخطيبي، مفكّر صالح بين الفنّ المعاصر والتراث

23 ديسمبر 2014
أحمد الشرقاوي، بلا عنوان
+ الخط -
كان عبد الكبير الخطيبي ضعيف البصر، لكن ثاقب البصيرة، وقادرًا على تملُّك الفنّ خارج قوانين العين وما هو مرئي. يبدّل باستمرار بين نظّارات القراءة ونظّارات الرؤية من بعد، في حركات صارت أشبه بالطقس، منحته، وهو يحاضر، هالة المفكّر العميق المتبصّر والبعيد النظر. وهو كذلك، لأنه أدرك، في وقتٍ احتاج فيه العرب إلى علماء الاجتماع لتحليل الظواهر الاجتماعية وتقديم التفسيرات الضرورية لها ولمقارعة علم الاجتماع الكولونيالي، أنّ الرهانات الثقافية والفكرية لها العمق نفسه. 

في رواية "رحلة حج فنان عاشق"، يتحدّث الخطيبي عن صانعٍ تقليدي يسعى من مدينة الصويرة بجنوب المغرب إلى الحجّ في بدايات القرن الماضي. الرجل فنّان بالمعنى الكلاسيكي العربي أي صانع تقليدي بلغتنا المعاصرة. فنّان يترجم العشق التليد والأكيد للخطيبي. فمن كثرة ما عاشر هذا المفكّر الفنانين المغاربة والعرب والعالميين ولكثرة ما كتب عنهم، يكاد لا يصدق المرء المفارقة التي يجعلنا الخطيبي نعيشها بشكلٍ مأساوي ومرح في الآن نفسه: فنون الإسلام هي أفق الفنّ المعاصر. إلى أي حدّ يمكن لهذه المفارقة الغريبة أن تسبر أنطولوجيا الفنون العربية المعاصرة؟
ففي كتابه عن الخطّ العربي، يبدي حساسية عنقودية وإشكالية، إذ يجعل الخط في آخر المطاف، الفنّ العربي بامتياز، لارتباطه الفعلي باللغة وبالعقيدة وبالهوّية والاختلاف. إنه الكتاب المرجعي الأعمق عن هذا الفنّ في العالم العربي. ولأن الخطيبي حافظ دومًا على الارتباط بين الماضي والحاضر، فقد خصّص في نهايته، مقالًا تحليليًا مهمًّاعن الحروفية في صيغتها الأكثر حداثة وبعدًا من المضمون الأرثوذكسي.

يفصح الخطيبي في هذا الكتاب، كما في مواطن أخرى، عن تعلّق فكري تحليلي، يكاد يكون هوسيًا، بالصنائع التقليدية وفنونها. ويجعلها مجازَ العبقرية الحضارية العربية وجمالياتها. ومن ثم ليس من قبيل المصادفة، أن يكون الفنّ الذي يبدو أقرب إلى قلب الخطيبي وهواه، هو فن العلامة (والرمز) سواء مجسّدًا في الحروفية أم في العلاميّة.

لا يعني هذا أن الخطيبي كان مؤمنًا بإن استلهام الحرف العربي وحده يمكن أن يكون عضُد الهوية. فإذا كانت كلّ هوية اختلافًا، فإن الهوّية المفترضة في الموضوع لا يمكن أن توجد بذاتها، بل بنوعية الاشتغال عليها. من ثم، فكلّ هوّية، هي تحوّل وتنوّع أكثر منها أصل مسبق.

يمتلك الخطيبي قدرة كبيرة على الإمساك بموضوعاته، يتتبعها، ويتقفّى شبكاتها وعناصرها الهاربة، يمسك نقطها العمياء، يحاورها، يعمّقها يستكشف مكنوناتها، يراهن على امتداداتها.

الخطيبي أشبه بالكيميائي، متى ما لمس شيئًا، صار في يديه تبْرا. وهو حين طلب منه متحف معهد العالم العربي الكتابة في الفن العربي المعاصر، كان فكره متجذّرًا في حركة تشكيلية يسائل العديد من معطياتها، فكتب "الفن العربي المعاصر: مقدمات" (ترجمته إلى العربية عام 2002). وبرّر العنوان قائلًا: "العربي هو ذلك الذي يقدّم نفسه من حيث هو كذلك. وليس لدينا من معيار آخر غير الانتماء الموسوم والمُعلن لهذه الحضارة التعددية، وطبعًا للعمل الفنّي الذي هو مصير الفنان". كثيرون هم الفنّانون الذين يسبغون على أنفسهم هذه الصفة، من غير أن يقدّموا سوى تبريرٍ قومي ساذج، من غير إيمان بالتعدّد العرقي واللساني الذي يخترق البلاد العربية، وباختلافها باعتباره هوّية وجودها المتعدّد.

الحديث عن العروبة على هذا النحو، يحرّر الكاتب الناقد من كلّ هوّية عمياء تمسّ نظرته وكينونته. بل هو يحرّر الخطيبي قبل ذلك من كلّ الخطابات التي سلط عليها سابقًا سطوة نقده المزدوج. يحمل الخطيبي حيثما ارتحل، من الأدب إلى التاريخ، ومن السوسيولوجيا إلى الفنّ، ترسانته المفاهيمية، لكنه لا ينفي أبدًا خصوصية كلّ مجال، حتّى وهو يمارس ما يسميه "التفاعل بين العلامات والمجالات"، منذ بداية السبعينيات، حين كان التخصّص والمعاقل المعرفية والدوغمائية، سلطة لا تضاهيها سلطة.

أما معاصرة الفنّ العربي، فهي ليست أبداً قطعية: "المعاصرة حاضرٌ خاضعٌ للتأجيل المستمرّ، وهي تعيش بين أنماط عديدة من الحضارات، تمتلك كلّ واحدة منها ماضيًا عريقًا متفاوتًا في القدم والعظمة". فالمعاصرة زمنٌ متحرّك يشتغل بالتشبيك المحوري بين الثقافات. 

وبما أن التطور لدينا، ذو إيقاعات متعددة تحتفظ بكافة الأزمنة في زمنٍ واحد، فإن الخطيبي يحذّر من استنساخ العلائق: "إن ما نقوم به عادة من تمييز بين الفنّ "الحديث" و"المعاصر" يظلّ مثارًا للغموض. فأين يبدأ الفن الحديث؟. إن التحقيب التاريخي أمرٌ لا يقبل الإنكار؛ بيد أن تمركزه حول التجربة الأوروبية والأميركية الشمالية، لا يقدّم لنا نِظرة مكتملة عن ابتكار الحداثة والمستقبل في دوائر حضارية أخرى. وهذا يعني أننا نسعى إلى التفكير في الزمن والفضاء في أبعادهما المتعدّدة المركز، أي في تاريخهما وفي جغرافيتهما وفنهما متداخلةً ومجتمعَةً". يمكننا الانتباه إلى هذا التواشج وهذه الاختلافات من الاعتراف بأن ثقافتنا العربية بكافة مكوناتها ليست ثقافة الانقطاعات التاريخية ولا المعرفية ولا الجمالية. والحقيقة أن هذه الثقافة تعيش سياقات متعدّدة متوازية ومتداخلة، بعضها آتٍ من القدم وبعضها من التلاقحات المتعاقبة وبعضها من تشابكات الحاضر.

وربما لهذا الاعتبار، ولكوْن التجربة الفنّية تجربة عينية أكثر منها تجربة نظرية، لم يَنِ الخطيبي يقول لي: إننا نتعلّم لغة الفنّ في المراسم وفي صحبة الفنّانين. وهنا بالضبط نعترف معه، بأن لدينا الكثير مما نتعلّمه من معايشة الفنّ حسيًا وجماليًا، ومن معايشة الفنانين في يومهم الإبداعي، ومن معايشة فكر الخطيبي نفسه أيضًا في انتباهه للمحسوس والهامشي واللا مفكر فيه، وفي استكشافه للمتفرّد وللمختلف والمتميز.

المساهمون