كلّ هذه العوالم... كلّ هذه السينما

كلّ هذه العوالم... كلّ هذه السينما

11 نوفمبر 2014
+ الخط -
هناك، في الأرجنتين، سجن اسمه أشواي، بُني في مطلع القرن العشرين، وظلّ قائمًا نحو خمسة وأربعين عامًا. وفي الصومال، يغالب فتيان صديقان حياةً قاسيةً وسْط جولات اقتتال لا تتوقف، ثم يهربان ويفترقان، أحدهما في أوكرانيا الآن، والآخر في السويد.

وفي اليابان، من بين ناسٍ كثيرين، هناك ثلاثة عشر شابًا، من خلفيات اجتماعية متنوعة، لكلّ منهم حكاية طموح وأمل تستحق أن تُروى. وفي كينيا، مورس تعذيبٌ شنيعٌ ضدّ متظاهرين في ثورة ماو ماو في الخمسينيات.

وفي إسبانيا، في عاصمتها مدريد، مسكنٌ من ستة أمتار مربعة، كانتْ تقيم فيه عائلةٌ كاملة قبل أن تصادره البلدية. وفي مالطا، ثمّة من يتحدّثون باللغة العربية، وثمّة تاريخ للجزيرة يربطها بحقبة عربية غابرة. وفي السويد، تلعب النساء لعبة كرة القدم منذ الستينيات، وإنْ في ظروفٍ صعبة.

وفي تركيا، في درّة مدنها اسطنبول، حدثت مظاهراتٌ مناوئة للحكومة، قبل أزيد من عام، وتابعها العالم. وفي الهند، في حيّ فقير في مومباي، تسكن فتاة عمرها اثنا عشر عاماً، تحلم أن تصيرَ ممثلة، وأن تصبحَ الأحياء الفقيرة أماكن أنظف وأفضل للحياة.

وفي فلسطين، في أتون عدوانٍ إسرائيلي مروّع على غزّة، كانَ صبيةٌ يتعلمون الموسيقى، ويحلمون بحياةٍ أفضل.

وفي سلوفينيا، قصة تُروى عن مسجد بني، قبل أزيدَ من مائة عام، في وادي صنوبر هادئ.

وفي قطر، في عاصمتها الدوحة، جمعية أوركسترا، تضمّ أكثر من مائة موسيقي عربي وأوروبي، لدى كل منهم أفكار واجتهادات في الحياة والفن.

وفي بلدة في إندونيسيا، صبي أعمى في الحادية عشرة من عمره، شغوف بالعزف على الطبول، ويعمل بكل جهده من أجل أن ينتقلَ من مدرسته إلى مدرسة أخرى.

وفي لبنان، عاملاتٌ في المنازل، من آسيا وأفريقيا، يؤثرن الانتحار على عيشهن، حيث يتعرضنَ لسوء معاملة لا يحتملنها.

تلك الأمكنة والعوالم والحكايات، من بعضِ ما حضر في 161 فيلمًا تسجيليًا، قصيرًا ومتوسطًا وطويلًا، جاءتْ من أماكن عديدة إلى قاعات فندق ريتز كارلتون في الدوحة، لتتنافس على 24 جائزة متنوعة في مهرجان الجزيرة الدولي للأفلام التسجيلية، في دورته الجديدة، أخيراً، التي أكملتْ عقدًا من الزمان.

استطاع هذا المهرجان منذ دورته الأولى في عام 2005، إلى الدورة العاشرة، الحفاظ على إيقاعه المحتفل بالتعدّد والاختلاف والمغايرة، والمنشغل بالجديد والراهن موصوليْن بالماضي والقديم، وأن يحافظ، أيضًا، على انتظامه وعالمية موضوعاته ورحابة فضاءاته.

وإذ تلقتْ إدارة المهرجان ألفَ طلب مشاركة، وإذ حرصتْ على أن يكونَ أعضاءُ لجنة التحكيم الخمسة عشر من خمس عشرة دولة، فذلك مبعثُ امتياز للمهرجان الذي صارَ له موقعه الخاصّ في خريطة مهرجانات السينما في البلاد العربية، ليس فقط بسبب طابعه التخصصي، بل أيضًا لأنه أصبحَ إطلالة سنوية على منتوج وفير من صناعة هذا اللون من السينما. 

وكان ذا دلالة ملحوظة أن المتميّز منه عربيًا محدود، بالنظرِ إلى قلّة الأفلام العربية المشاركة.
لم يحظَ المهرجان بالإضاءة اللازمة عليه عربيًا، وبدتْ أيامه الأربعة تظاهرةً خالصة للسينما، غير معنية بالإكسسوارات الإعلامية، المنجذبة غالبًا للإبهار الديكوري.

وقد بدا معنياً بأن يكون نجومه هم الشبان والشابات من صنّاع الأفلام المشاركة، الأمرُ الذي كانَ متّسقًا مع طبيعة الفيلم التسجيلي نفسه، الذي يقوم، أساسًا، على تسجيل الواقع كما هو، ولا ممثلين محترفين فيه، بل الناس أبطاله، والواقع كما تلحظه الكاميرا هو ما يزوّده بالمناظر والأجواء. والحياة الواقعية الحقيقية هي المادّة الأساس فيه. لا يقوم هذا الفيلم على خيال كاتب سيناريو، وإن يظلَّ مهماً أن وظيفةً للخيال رئيسة في تدعيم الرؤية المراد إيصالها من الفيلم. 

أوضح مدير مهرجان الجزيرة الدولي للأفلام التسجيلية، عباس أرناؤوط، أن لجنة التحكيم قامت بعملها بكل استقلالية، وتوزعت في مجموعاتٍ من أجل مشاهدة الأفلام المشاركة في فئاتها؛ 45 فيلمًا قصيرًا، 31 فئة أفق جديد، 51 فيلمًا متوسطًا، 34 فيلمًا طويلًا. وتنوّعت الحساسية الفنيّة والمرجعيات الثقافية لأعضاء لجنة التحكيم، وكان منهم؛

الإيراني أمير إسفنداري، والمغربي سعيد يقطين، والإيطالي أوريليانو أمادي، والنرويجية فيبيكي لوكبيرغ، واليوناني نيكولاس مغريليس، والألمانية هيلغا ريدمستر، والقطرية وداد الكواري. وبدا أثر حاسمٌ لهذا التنوّع في تعيين معايير الجودة في الأفلام التي استحقّت الجوائز، ومنها فيلم "أوتار مقطوعة" القصير، لمخرجه الفلسطيني، أحمد حسونة، الذي نال جائزة الطفل والأسرة، واختير للمشاهدة في افتتاح المهرجان، تحيةً من إدارته والقائمين عليه إلى غزّة التي كانت فضاء هذا الفيلم، إبّان العدوان الإسرائيلي الأخير.

وإذ بدا هذا الاختيار توجهًا أخلاقيًا تجاه فلسطين، كما في دورات سابقة للمهرجان، فإن انحيازًا خاصًا تبدّى في المحتوى الإنساني والجمالي للرسالة التي يحملها الفيلم، في تصوير بحث أطفال غزّاويين عن البهجة والفرح والجمال في الموسيقى التي يتعلّمونها، ويتدرّبون على عزفها. وفي أجواء تعلّمهم هذا، تتداخل صور العدوان الإسرائيلي بما تحمله من توحش في استهداف الفرح والبهجة. 

وأن يفوز فيلم فلسطيني في الموضوع، ويذهب إلى مرحلة التهجير والاحتلال الأولى، بأرفع جوائز المهرجان، وأن يُختار في الافتتاح فيلمٌ من غزّة، وأن تُستضاف فرقة فتيةٍ فلسطينيين من مخيم عين الحلوة في لبنان (فرقة الكوفية) لتأدية تنويعات غنائية وفلكلورية راقصة بين فقرات حفلي الافتتاح والاختتام، فهذه من أمارات حبّ فلسطين في هذا المهرجان المعني أصلًا بالسلام والجمال، وكان "الحرية" عنوان دورةٍ سابقةٍ له.

المساهمون