حياتنا كما يراها فلكيٌّ من كوكب كوبرافيا

حياتنا كما يراها فلكيٌّ من كوكب كوبرافيا

11 نوفمبر 2014
+ الخط -
لو قنصَتْ بالصدفةِ عدساتُ تلسكوب كوكبٍ بعيد، اسمه كوبرافيا، كوكبَنا الضئيل الضائع، في مجرّتنا الصغيرة الهامشية، وراقبهُ بواسطتها فلكيٌّ كوبرافيٌّ اسمه هدهود، يُهمُّهُ تقديمُ تقريرٍ مكثّفٍ للكوبرافيين عن واقعنا وآليات حياتنا الأرضية، في هذه السنوات من الألفية الثالثة، لبدأ التقرير ربما كالآتي: 

"يتوزّعُ بشر كوكب الأرض على بقعٍ جغرافية ذات حدودٍ مغلقة، يسمّونها دول. كلّ دولةٍ أشبه ببيتٍ في المدينة نفسِها. أحياءُ هذه المدينة شديدة الاختلاف والتمايز الحضاري؛ بعضها شوارع راقية مُحصّنة، اسمها الغَرب، تمتلئ بالمعالم الثقافية والحياة الرغيدة: يرفرفُ فيها العِلم، ثقافتها تجتاحُ كوكبَ الأرض، تصلُ تليسكوبات سفنها الفضائية إلى تخوم كوبرافيا التي تبعدُ عن الأرض مليون سنة ضوئية! يعيشُ حيّ الغرب بأمانٍ داخلي وتطوّرٍ دائمٍ ورفاهيةٍ عالية مقارنةً بأحياء الآخرين، بعد أن نظّمَ أهلُه أمورَ حياتهم الداخلية بقوانينَ مدنيّة تفرضُ نفسها على الجميع، وبمبدأٍ حضاريٍّ اسمه: العلمانية، يفصلُ السلطات السياسيّة والدينيّة والماليّة والتعليميّة عن بعضها، ويُخضِعها جميعًا لسلطة القانون".

سيشرحُ التقرير في أحدِ هوامشه للكوبرافيين ماذا تعني هذه الكلمة الغريبة المثيرة: الدِّين. سيجدون صعوبةً استثنائيةً في استيعابها. سيسردُ لهم تاريخ الأديان في كوكبِنا وحروبِها المستديمة، بما فيها الحروبُ الدينية والطائفية في حيّ الغرب، التي انتهت فيه تماماً بفضل تغلغل أفكار التنوير، وأحد تجلياتها اللاحقة: مبدأ العلمانية. لكنّه سيوضِّح لهم بكلّ أسفٍ وقلق أنّ السلطات المالية اليوم، تنتهكُ مبدأ العلمانيّة أكثرَ من أي وقتٍ مضى، وأنّ السلطةَ السياسية في دولِ الغرب لم تعدْ أكثر من ورقة التوت التي تغطي أصابع سلطة المال وعوراتها. 

سيتوقّف التقرير عند عبارةٍ قالها رئيس وزراء إحدى دول أحياء الغرب، فرنسا، في خطابِه أمام رؤساء شركات الأعمال الخاصّة: "أعشق الشركات الخاصة!"، ثمّ سيسردُ شذرات من مقال طويل، في صحيفة اللوموند ديبلوماتيك، يلخِّصُ كتابًا جديدًا يسخر فيه من هذه العبارة فيلسوفٌ غربيٌّ مرموق: ريجيس دوبريه. 

سيضع التقرير بالتأكيد في ملحقِهِ خارطةً جغرافيةً دقيقةً بالألوان لِكوكبنا، ودولِهِ بالأسماء، قبل أن يهرول بسرعة إلى الهاوية وهو يقول: "تحيطُ بحيّ الغرب ضواحٍ تكتظّ بالجوعِ والتخلّف والموت. العقليةُ العِلميّة فيها غائبةٌ تمامًا، والدين شديد الحضور. دولها ضعيفة منهارةٌ عمومًا، تجتاحُها الحروب الدينية والطائفية اليوم، وحروب أخرى من طراز جديد: لا متكافئة هندسيّاً (asymétrique)، بين قوى غربيّةٍ عاتية تستخدمُ الأسلحة الجبّارة الحديثة والطائرات بدون طيّار. لا يموتُ من جنودها خلال هذه الحروب أحدٌ تقريباً؛ ومستضعَفين أو مهمَّشين أو مقهورين أو مُذَلّين منذ قرون، يلجأون اليوم للسلفية والهويّة المنغلقة والتطرّف أيضًا، يموتون في هذه الحروب بأرقامٍ خيالية. 

بين تلك الضواحي حيٌّ مرموق اسمه "العالم العَرَبي" لم يعدْ له في مرقصِ أمم كوكبِ الأرض مكان. له على المعمورة مهمّتان لا غير: بيع البترول، وحماية حيّ الغرب وامتداده البعيد: دولة إسرائيل (التي تمّ إعلانها في ١٩٤٨ داخل حي العالم العربي، في فلسطين، بعد طرد سكّانها الأصليين من ديارهم، بحجّة أن إله دين اليهود منحهم تلك الأرض قبلَ أكثر من ألفي سنة، في ألواحٍ كتبها بخطِّ يده، وسلّمها لنبيهم في جبلٍ بسيناء).
حمايته من هجرةِ مئات الملايين من أبناء الضواحي الأفريقية والعربية والآسيوية الفقيرة إليها، للهروبِ من حياتِهم البائسة التي يهيّمن عليها القحطُ والخراب والموت، وللعيش مثل أبناءِ حيّ الغرب، في مجتمعات أكثر حريّة وديمقراطية، تحترمُ سكّانَها، يسودها القانون والمؤسسات المدنيّة. 

سيقول التقرير: "لا حدّ، في الحقيقة، لإعجاب بشر أممية المهمّشين بثقافة الغَرب ومستواه العلمي والحضاري. يأسرُهم نمطُ حياته وإن كان هو نفسه أحد أهمّ أسباب مشاكلهم الكبرى!. دخلوا دومًا في حروب معه، مثل حرب دولة فيتنام التي احتلّتها دولة الغرب الأكثر قوةً وبطشًا: أميركا. انهزمتْ هذه عسكريًا هناك، بعد جرائم ارتكبتها لا تعدّ ولا تحصى. ومع ذلك، معظم سكّان فيتنام اليوم يحلمون بالعيش على طريقة مستعمرِهم الأميركي!. نعم، حياةُ الغرب نموذجُ وقِبلةُ أحلام معظم سكّان كوكب الأرض!". 

لن يفهم أحد في كوبرافيا كل هذه المفارقات، ولماذا يعيش أهل كوكبنا هذا النمط الغريب من حياةٍ متباينةٍ وحشيّةٍ تخلو تماماً من العدل والمنطق. سيستقيمُ شعرُ رؤوسهم من فرطِ الاستغراب عندما يضع هدهود في تقريره صورًا لجنودٍ أميركيين يبولون فوق جثّة طاليباني، وآخرين يعذّبون عراقيين في سجن أبو غريب.
أو فيلم يوتوب عن صحافيٍّ غربيٍّ يقطع رأسه الداعشيون بوحشيّة منقطعة النظير، وآخرَ عن طفلٍ في القدس يحرقه المتطرّفون الإسرائيليون بتلك الوحشيّة نفسِها. تليه صور ٥٠٠ طفلٍ قُتلوا في قصفٍ محموم على غزّة، ليس بعيدًا عن خُمسِ مليون سوريٍّ أبادهم نظامٌ ديكتاتوري يعتبر سورية ملك الابن بعد الأب. 

سيتضاعف عدمُ استيعاب الكوبرافيين لمنطق وواقع كوكبنا عندما يرفق هدهود في تقريرهِ صورًا للحياة الداخلية الراقية في حيّ الغرب، بمتاحِفها ومسارحِها ومدارسِها ومستشفياتها وإنتاجاتها العلميّة والثقافية الباهرة!. 

ولمساعدة سكّان كوكب كوبرافيا على استيعاب تناقضات الحياة الجيوسياسية في كوكب الأرض ومنطقها المجنون، سيحتاج هدهود وهو يراقبها بتلسكوباته ويعِدّ تقريره المكثّف عنها، لأن يشرح لهم بعض مميزات "الطبيعة الإنسانية" لأهل الكوكب الأزرق. سيكتب في تقريره شيئًا سيثير ضجّة عارمة في كوبرافيا واستغراباً شديداً: 

"علاقة إنسان كوكب الأرض بنفسه وذويه شيء، وعلاقته بالآخر شيء مختلفٌ تمامًا. فمثلًا: إذا قال الطبيب في كوكب الأرض لإنسان بأنّه سيخضعُ لعمليةٍ جراحية في صباح الغد تُستأصلُ فيها إحدى أصابعه، فلن ينام المسكين طوال الليل من القلق والرعب.
لكن إذا سمع هذا المسكين نفسُه، في أخبار الثامنة مساءً، بأن تسونامي سيحصد قبيل الفجر ملايين الموتى في طرفٍ بعيدٍ من كوكب الأرض، فسيتأثر قليلًا، قبل أن ينام رغم كلّ ذلك قرير العين، ولن يستحضر خبرَ التسونامي بعد الصحو إلا عندما تسرد نشرة أخبار النهار عدد الموتى!".


المساهمون