حرفةُ النشر

حرفةُ النشر

11 نوفمبر 2014
+ الخط -
قبل أن توقع عقدًا مع دار الساقي في لندن، من أجلِ نشر روايتها الجديدة، اشترطتْ روائيةٌ إنكليزيةٌ معروفة، أن تتعرّف إلى المحرّر الذي سيعملُ على النصّ، لتقرّر بعدها تسليم المخطوطة للدار أو عدم تسليمها.

يعني هذا الأمرُ أنّ الروائية المذكورة تعدّ أمر تحرير النص -وهو نصّ روائي وليس نصًا فكريًا- وتصحيحه من قبل الناشر أمرًا بدهيًا، لا بل واجبٌ على الناشر. وبالتالي فإنّ ما يميز ناشرًا عن آخر، من ضمن أمور أخرى، هو توافرُ محرّر ممتاز لديه، يستطيع أن يقنع الكاتب، ويستطيع أن يتعاون معه، من إجلِ إيصالِ النصّ إلى القارئ بالصورة اللائقة. 

أمّا ما يعترضنا مع بعض المؤلفين العرب، فهو تلك الفكرة الرائجة بأنّ أيّ "نصّ إبداعي" لا يجوزُ المساس به. وقد قالَ لي مرّة حرفيًّا أحد المؤلفين: "أنا ما حدا بيصححلي حرف"! 

أحببتُ أن أبدأ بهذه "الخبرية" كي أشير إلى مدى اختلاف مفهوم النشر في الغرب عن مفهومه في العالم العربي. وقد أتاح لي قربي من تجربة دار الساقي في لندن، في مجال النشر باللغة الإنكليزية، التعرّف عن قرب إلى هذه الفروقات. 

أظنّ أن المشكلة الجوهريّة هنا، تكمنُ في النظرة إلى الناشر وإلى مفهوم النشر؛ إذ يتمّ التعاطي مع الناشر في العالم العربي على أنه "مطبعة"، بينما الناشر في الغرب هو شريكٌ فعلي، وعنصرٌ مقرِّر في عملية صناعة الكتاب، مضمونًا وإخراجًا. 

قد يكون للموضوع علاقة بمدى ثقة المؤلف بالناشر، وهذا أمر طبيعي وبدهي، وأظنّ أن ما حاولتْ دار الساقي إنجازه، منذ تأسيسها وحتّى اليوم، يصبُ في خانةِ كسبِ ثقةِ المؤلّف، وبالتالي كسب ثقة القارئ. 

ومن الاختلافات الأخرى الملفتة، التعاطي مع مفهوم "الملكية الفكرية". فحقوق الملكية الفكرية في الغرب مقدّسة، ولا يجوزُ المساس بها، بينما يبدو مفهوم "الملكيّة الفكرية" ملتبسًا كثيرًا في العالم العربي، ويحيطُ به جهلٌ غير مبرّر، حتّى لا نقول إنه جهلٌ مقصودٌ أحيانًا. يبدأ بموضوع تزوير الكتب ورقيًا وإلكترونيًا، ولا ينتهي بموضوع الترجمات المزوّرة. 

ثمّة حادثة حصلتْ مؤخرًا مع الدار، إذ إن دار الساقي في بيروت وقّعت عقدًا مع دار الساقي لندن لشراء الحقوق العربية، من أجل ترجمة كتابٍ صادرٍ باللغة الإنكليزية. ولكننا نفاجأ بعد فترةٍ قصيرةٍ أنّ الكتاب منشورٌ في مصر باللغة العربية من دون الحصول على أي إذنٍ من الناشر الأصلي للكتاب ومالك الحقوق (الساقي لندن).

لدى اتصالنا بناشر الطبعة العربية المزوّرة للاستفسار حول الموضوع، كان الجواب: "نحن لا نعرف كيف نحصل على هذه الحقوق"! وفي حالة أخرى مشابهة، كان جواب الناشر: "أنا وقعتُ عقدًا مع المترجم الذي ترجم الكتاب إلى العربية"!! 

أمّا في موضوع الرقابة في العالم العربي، فحدّث ولا حرج. ومن المفارقات المضحكة المبكية التي حصلتْ معنا في الماضي، في إحدى دورات معرض الكتاب في مصر، أننا قد مُنعنا من عرض رواية "الخبز الحافي" للكاتب المغربي محمّد شكري، لنفاجأ أنّ الكتاب معروضٌ، بطبعةٍ مزوّرة، في جناح إحدى دور النشر المصرية! 

في النهاية، تبقى وظيفةُ الناشر، سواءٌ أكانتْ في العالم العربي أم في الغرب، هي "فنّ صناعة الكتاب" بكلّ ما للكلمة من معنى. وتبقى العلاقة بين الناشر والكاتب، علاقة شراكة وتعاون لتقديم كلّ ما هو جدّي ورصين ووممتع ومفيد للقارئ الذي وضع ثقته فيهما.

المساهمون