الثقافة العربية؛ عودٌ على بدء فلسطيني

الثقافة العربية؛ عودٌ على بدء فلسطيني

11 نوفمبر 2014
+ الخط -
بطريقةٍ ما، أثّرت "ثوراتُ الربيع" في الثقافة العربيّة. ليس سهلًا جلاءُ هذا الأثر. فلو نظرنا إليه من ناحية الكمّ، لوجدنا أن ثمّة طفرة كتابية (شعر وراوية ويوميات الخ) وأخرى فنّية (لوحات، منحوتات، غرافيتي، تجهيزات، أفلام الخ)، تستندان مباشرة إلى الحدثِ التاريخي، وتتكئان عليه في القول وتمرير الرسائل.

تعيدان استعمال مفرداته ورموزه بإسرافٍ ملحوظ، على نحوٍ غدا فيه الحدثَ نفسه "علامة تجارية" و"ماركة مسجلة"، تضمن لمن يعيدُ انتاجها شهرةً أوّلًا ثمّ اعترافًا ثقافيًا بقيمة ما يكتب أو يقدّم من فنّ، وربّما أيضًا منحته الجوائز.

صحيحٌ أنّ ثمّة تأسيساً لهويّة ثقافية عربية جديدة، بعيدًا من الرقيب سليل الأنظمة الديكتاتورية، إلا أنه لا بدّ من الإقرار بوجود شيء في هذه "الدورة الانتاجية الثقافية"، إن صحّ التعبير، يستحثّ الذاكرة لأن تعودَ إلى مثالٍ شهيرٍ من ماضي ثقافتنا القريب.

ففي سبعينيّات القرن المنصرم، بدا انضواءُ مثقّفين فلسطينيين وعرب كثر، تحت راية منظمة التحرير الفلسطينيّة، أمرًا جاذبًا لأكثرَ من سبب. منها أسباب صحيحة ووجيهة لا يمكنُ نكرانها: كنشر الدوريات الرزينة والجديّة، وإقامة المراكز البحثيّة، فضلًا عن الضوء الساطع لفلسطين كقضيّة قومية لا يُمكن لمثقّف عربي ما، إلا الانضواء تحت رايتها والتعبير عن انتمائه إليها.

لكن على ما يبدو، كانَ ثمّة أسباب أخرى دفعت بعض المثقّفين للانضواء من دون أن يكون انتاجهم الثقافي يتناسبُ و"الميزات" التي كانوا يحصلون عليها. ليسَ المقصودُ بالميزات الجانبَ المادّي على الإطلاق، المقصود مباشرةً هو تلك الميزات المعنوية، التي كانتْ إلى حدّ كبيرٍ، تحصّن "المثقّف" وتضفي عليه هالةً تمنعُ نقدَ عمله، على اعتبار أن عمله هذا ينحازُ إلى "قضيّة فلسطين". هكذا غدتْ القضيّة الفلسطينيّة "ماركةً مسجلةً".

صحيحٌ أنه بعد عقودٍ قليلة، كشفَ ترهّل "جيش" المثقّفين المنتفعين من القضيّة، عن ضحالة أعمالهم، فخرجتْ وخرجوا من الذاكرة الثقافيّة العربية، إلا أنّ ذلك لم يكنْ حدثًا معزولًا عن التغيّرات السياسيّة. فالوجود الفلسطيني الذي كان كليّ الحضور في بيروت ذاك الزمان، تغيّر، وفرضَ أثر تغييره على الثقافة ومنتجيها. عندها فقط، رحنا نقرأ في الكتب نقدًا رصينًا لاتكاء الثقافة على "القضية".وتمّ خلع ثوب التقديس، عن كلِ نتاج استعملَ "القضيّة"، كعلامة تجاريّة.

هكذا، تجرّ السياسةُ الثقافة، والواضحُ في المثال الفلسطيني أعلاه، أثر التغيّر الجغرافي كذلك. تغيّرٌ يمكنُ عدّه عاملًا مهمًّا في الثقافة العربيّة. فالأوضاع الرهيبة التي تعيشها العواصم العربيّة التي كانت حواضرَ ثقافية ذاتَ وزنٍ طاغٍ: بغداد، ودمشق وبيروت والقاهرة، لا يُمكنُ إلا أن تكونَ مؤثّرة. حيثُ إنّ مواضيع مثلَ الموت والحرب والقتل والخراب العامّ والمعمّم، طغتْ وستطغى لفترة غيرَ وجيزة على النتاج الثقافي.

مثلما ستطغى مفردات بعينها مثل الذبح، والدمّ والتفجيرات وغيرها من المفردات المنتمية إلى الحقل اللغوي نفسه. هكذا يفكّر المرءُ بمرارة في هذا المجال مثلًا بالعراقيين الذين اكتووا بنار الاستبداد ثمّ رمضاء الاحتلال وصولًا إلى جهنم اجتماع التطرّف والطاغية، فيحسب لهم استعمال مفردة المفخّخات بوفرة في كتاباتِهم. 

لا يُمكن البتة إطلاق أحكام قطعية على حقّ الناس والمثقّفين في التعبير، لكن يمكنُ على الدوام جسّ نبضِ الخسارة، لكأنّها ثقافةٌ جديدةٌ قديمةٌ في آن معًا. الخسارةُ في قسرِ الثقافة على الالتزام بمساربَ محدّدة تفضي إلى موضوعٍ شبه وحيد؛ الموت. سيأتي أملٌ كاذبٌ من كتابات أخرى، تمجّد الحياة، إذ هي ستختار مكانَ الضدّ من كتابة الموت، وتشرّع لخيارها باعتباره مقاومة الموت بما هو ضدّه.

لكن على الأرجح أن تميلَ أغلبُ الكتابات إلى التأريخ وإلى التوثيق، توثيق مراحلَ بعينها من المآسي العربيّة التي لمّا تنتهي. شيءٌ مشابهٌ كذلك حصل للأدبِ الفلسطيني غبّ بداياته، حيثُ اتخذَ طابعًا توثيقيًّا وتسجيليًّا، فحضرتْ أسماء القرى والمدن بكثافّة في قصائد الشّعر، كما لو أن إيرادها في القصيدة، يثبّتها قبل أن تمحوها الجرّافات. وهذه المفردة الأخيرة، ستحسبُ للفلسطينيين، إذ لا حاجة إلى تعيين أصحاب الجرّافات، يكفي استعمال المفردة لفهم أثر الاحتلال على الأرض.

هكذا، ستنضحُ الثقافة العربية بمفردات أشبه بالعلامات الدالة على ما حدثَ في بلاد العَرب، وتحديدًا في حواضرهم الثقافيّة، التي تتعرّض لما تتعرّض له من تفتيتٍ، يكادُ يطولُ كلّ شيء، وسنقولُ إننا سنؤرّخ للثقافة العربيّة بـ ما قبل و ما بعد، وكنّا فعلنا ذلك من قبل، فأرّخنا بعامِ النكسة الشهير.


المساهمون