هاتف روسي، همسات صينية

هاتف روسي، همسات صينية

21 أكتوبر 2014
+ الخط -
عثر أنطوان غالان خلال رحلاته المشرقية على مخطوط لـ"الليالي"، ترجمه إلى الفرنسية، إضافة إلى اعتماده على راوٍ ماروني سوري اسمه حنا دياب كان ذاكرة الحكايات. اخترع غالان قصصاً كعلاء الدين وعلي بابا. لم يتقيّد بالحرفية واقتفاء الحذافير، فالمترجمون تدخّلوا أيضاً كمؤلفين لذاك الكتاب المفتوح مجهول المؤلف، وتصرّف بعضهم كرقباء هذّبوا اللغة أخلاقياً، فشذّبوا القصص مما اعتبروه سوقية الرعاع وبذاءاتهم. "الليالي" وقوع في المحظور، وما سُمّي "تهذيباً" في ترجماتها القديمة وطبعاتها العربية العديدة كان قناعاً، فحينما يظهر الجسد وتُسمَّى أعضاؤه وشهواته تبدأ دوامات البلاغة والمناورات؛ السرير أيضاً فارقٌ يفصل بين الشرق والغرب اللذين يتبادلان الأدوار، سريرٌ يطفو فوق نهر من الدم. المؤرخون العرب القدامى لم يُعنوا بالليالي. ينعتها ابن النديم في "الفهرست" بالغثاثة وبرودة الحديث. لم تُروَ حكاياتها بلغةٍ مرصَّعة، ولم يكن ثمة مؤلف يشرّف الكلام بإمضاء اسمه؛ كانت عملاً لقيطاً أو مشبوه النسب، حرّاً كمنمنمة هائلة الأبعاد لا يوقّعها فنانونها أبداً. ما أكثرهم دائماً أولئك الذين يهزؤون بـ"الابتذال" ويستهجنونه، لكنهم مشدودون في السر إلى ما يشجبونه.
أسّست ترجمة "الليالي" الوهم المسمّى سحر الشرق الذي تعبق به كتابات الرومانسيين. لا يزال ذاك الوهم حياً: شرق الحكمة والعطور والغرابات، عالم كنوز آخرها النفط، عالم التطرّف في الفقر والثراء. شرق الليالي لا يقع في الصين، ولا يشبه عوالم "حلم الحجرة الحمراء" مثلاً، بل يعني عالماً إسلامياً على الأرجح، غريباً غامضاً، مقلقاً بعيداً: الحواضر مدن عربية كبغداد والقاهرة ودمشق، أسماء الشخصيات عربية، وهم مؤمنون بالإسلام وترد على ألسنة بعضهم آيات من "الذكر الحكيم". ليس زوال الصور النمطية يسيراً لأنها بنات القرون؛ تنتقل كالحكايات من مكان لآخر، ومن عصر لآخر. ربما حفاوة الغرب المستمرّة بهذا الكتاب اللامتناهي سبب من أسباب عودة الاهتمام العربي بها، وهو اهتمام محدود في كل حال. ربما بدا مهيناً عنوانُ "الليالي العربية" الذي اجترحه في الترجمة الإنكليزية ريتشارد بيرتن، ولربما يبدو مضحكاً أو متهافتاً إذا تذكرنا مثالاً معاصراً رائجاً يوحي بما يُعتبر عوالم الليالي، هو لحن كورساكوف "شهرزاد" ملازماً فوازير رمضان.
قُورن أسلوب الليالي في السرد بالدمى الروسية. تغيّرت بعض الحكايات عبر الزمن وتعدّد الروايات. يذكرنا هذا التحول بلعبة اسمها في بريطانيا "همسات صينية"، وفي روسيا "الهاتف المعطّل". ينتظم اللاعبون في حلقة، ثم يهمس اللاعب الأول قصةً في أذن جاره، ليعيد روايتها في أذن اللاعب التالي، وهكذا دواليك إلى أن يتوقفوا عند اللاعب الأوّل وتُقفل الدائرة ليقارنوا علناً بين البداية والنهاية، بين الأصل والنسخة الأخيرة التي غالباً ما تكون قد تحولت إلى قصة أخرى.
هذا ما فعلته شهرزاد بما قرأت. كانت مثل رواة ليل امتهنوا الحكي، وأجدادهم تردّدوا على الإسكندر ذي القرنين، وأسْروا عنه بالحكايات أرَقَ لياليه. لم تؤلّف شهرزاد شيئاً، كانت تتذكّر ما تقرأه، ويقال إن مكتبتها احتوت ألف كتاب. القراءة تأليف حالم أيضاً، لكنها في "الليالي" جزء من السرد وأسلوب في فنّ إرجاء الموت. الليالي لا تُقرأ كضخام الروايات من الغلاف إلى الغلاف. التعاقب والترتيب ليسا مهمّين. يدخل القارئ هذه المتاهة كيفما اتفق له، مثلما يتابع فوضى القراءات المتقطعة عبر الإنترنت فيقفز بسبب الفوضى والضجر من صفحة إلى أخرى، متلصصاً كمراهق أحياناً، وخطواته - مثل ناقة زهير بن أبي سلمى في معلّقته، الضريرة، كالمنايا في ليل القدر- خبط عشواء، إذ من أين سنأتي بالوقت كي نقرأ كتباً فيها عزاؤنا ويأسنا؟ وكم من كتاب لم نكملْ قراءته؟ العرب القدامى تطيّروا من كمال "الليالي" وشساعتها، وقيل إنّ مَن يُتمِمْ قراءتها يَمُتْ؛ كتابٌ أنقذ العذارى من القتل يحتوي قصصاً عن كتبٍ عظيمة تُغرقها الملائكة في نهر دجلة، وكتب أخرى مسمومة الأوراق تقتل قرّاءها، ومن لم يمُتْ بسيف أو بكتاب "مات بغيره"؛ أمام العالم مثال بلد اسمه سورية، كلغزِ مدينة النحاس التي يختفي مَن يدخلها، والنحاس – معدن القمقم محبس الجن ومعدن الطلقات والقذائف وقباب المعابد - جذره في لسان العرب: "نحس".

المساهمون