خواطر غزية

خواطر غزية

06 اغسطس 2016
تصوير: أنيس غنيمة
+ الخط -

لأن العرب (بلا تعميم) صاروا متيمين بالأرقام القياسية التافهة التي يحتضنها "معجم غينيس" الساعين لدخوله بأكبر سندويش فلافل وأطول قلم رصاص وأوسع صحن تبولة... فإنّ قطاع غزة قد يكون اختصر لهم، من دون عناء من قبل غير الفلسطينيين، مجموعة من الأرقام القياسية لكن المأساوية: أعلى نسبة اكتظاظ سكاني في العالم. أقل نسبة استهلاك مياه للفرد الواحد.

المنطقة الجغرافية الوحيدة التي يمنع الدخول والخروج منها وإليها، إلا حين يسمح بذلك الطرفان المعاديان: إسرائيل والنظام المصري.

لا بأس إن احتجّ أحدهم على مساواة الطرفين في وصف العداء، ذلك أن ممارسات السلطات المصرية اليوم، والتي تنافس في عدوانيتها ما كان معتمداً أيام نظام حسني مبارك، تجعل من الواجب الأخلاقي وصفها بالمعادية، على الأقل للفلسطينيين المقيمين في القطاع.

لا فائدة في محاولة إقناع الطفل والمسنِّ في غزة بأنّ الفارق شاسع بين إسرائيل، ككيان وجوده معادٍ لأنه احتلالي، من جهة، والنظام المصري الذي سيتغير في نهاية المطاف من جهة ثانية، فحين تسمع الغزيين يهمسون، لكي لا يكفروا بعروبتهم بصوت عالٍ، بأن حصار إسرائيل يبدو أحياناً أقل وطأة من حصار السلطات المصرية، يصبح قول الأشياء بأسمائها الحقيقية واجباً تجاه هؤلاء العاجزين حتى عن المجاهرة بحقيقة مشاعرهم تجاه نظام يمنعهم من المعبر البري الوحيد الذي يمتلكونه في رفح... وهم على الرغم من كل ذلك يتفادون الإقدام على أي موقف أو سلوك يزيد من مصائب حياتهم المحاصرة.

***

تنتمي المقاومة إلى معجم ردّ الفعل لا الفعل نفسه. المقاومة ردّ لعدوان، بالتالي لا طائل من فذلكات من نوع "مشروع المقاومة" و"فلسفة المقاومة"، لأن المقاومة يجب أن تكون مؤقتة مرتبطة بالعدوان، لا فلسفة ولا مشروعا ولا نمط حياة مستداما، فذاك يجدر أن تكون سمته شيئاً آخر تماماً، حياة وحرية بكل معنى الكلمة، لا استشهاد فحسب وتخصص في حماية الأرض والكرامة الشخصية والوطنية.

غالباً ما كان أمام الفرد تحت الاحتلال، حرية الاختيار بين المقاومة وعدم المقاومة، أي اتخاذ موقف سلبي من غير الضروري أبداً أن يكون عمالةً للعدو، لكن مجرد رغبة بعدم القتال والموت وهو ما لا ينتقص من كره الفرد المعنيّ للعدو.

لكن كأنه كتب على فلسطينيي غزة، وحدهم، ألا يكون أمامهم خيار، وأن يكونوا مرغمين على المقاومة. بذلك، يخسر المصطلح جانباً من أهميته ومن قيمته باعتباره تعريفاً، اختيارياً ينمّ عن قناعة، بما أن المقاومة، تحديداً العسكرية منها، عادة تكون غير نظامية، بل شعبية و/أو حزبية، تترجم بقرار حرّ من المقتنعين بضرورتها. لكن في غزة، تبدو المقاومة، أو الرغبة بالمقاومة على الأقل، شعوراً إلزامياً لكل من يعيش في القطاع محروماً من كل شيء حرفياً.

***

عندما ينعم الغزيون بساعات من التيار الكهربائي، ويفتحون تلفازهم ويشاهدون قنواتهم الفلسطينية التي تبثّ من الضفة الغربية، يلاحظون من دون شك أن العقل الصهيوني نجح تماماً في إحداث شرخ هائل بينهم وبين البقعة الفلسطينية الأخرى المحتلة.

هناك، في الضفة، الحصار موسمي محكوم برغبة الاحتلال معاقبة قرية أو محافظة ما خرج منها مقاوم فدائي أوجع الدولة العبرية فعلاً.

لكن الحصار ذاك سرعان ما يتم تخفيفه، لتعود البضائع الحديثة إلى الدخول، وليعود الفلسطيني قادراً على الخروج من الضفة بمليون إهانة ومعاناة طبعاً، لكنه يخرج ويدخل في النهاية رغم كل شيء، على عكس الغزيّ..

وهذا يجعل العقل الصهيوني يقف مزهوّاً بنفسه، معتقداً أنه تمكن من تلقين العالم درساً مفاده أن بقاء الأرض الفلسطينية تحت الاحتلال أفضل بكثير من الانسحاب وإبقائها محتلة اقتصادياً بفضل الحصار... لكن المعادلة الإسرائيلية تجاه غزة تعتمد على ثابت ليس بثابت، لأنه سيتغير حتماً حالما يتغير النظام المصري. حينها فقط، سيفهم العقل الصهيوني أنه بنى حساباته على مؤقت ظنّه أبدياً.

(صحافي فلسطيني / بيروت)

المساهمون