في الوعي والجغرافيا واللغة

في الوعي والجغرافيا واللغة

31 يناير 2016
ألبِرتو سميث سارافيا / التشيلي
+ الخط -

يمكن النظر إلى حالة الارتكاس التي حملت مشروع التحرر على التراجع؛ وحركته الوطنية على التشظية وبعثرة الشمل بوصفها تدميراً لعناصر الوعي والجغرافيا واللغة. ذلك أن مبلغ فقه المقاومة -بغرض المقاومة- هو أن تتقلّص "إسرائيل" (روايةً ووجوداً) في تلك العناصر.

تظهر النقاشات الدائرة، مؤخراً، انكفاء الرواية بل وتكافؤها "بالمعادلة الموضوعية" للرواية النقيضة. ومن هنا، لا وجود لرواية إسرائيلية وأخرى فلسطينية للأحداث الجارية. إذ تبدو الأولى شبيهة بـ"نظافة القاتل" (المحمولة على الاستسهال والفبركة وإخلاء اليد وتبييضها)، والثانية شبيهة بـ "الأسود يليق بك" (المحمولة على اعتياد التأسّي والتكرار والبلاغة العاطفية) فخطاب القتل والإثارة لا يقابله إلا خطاب البطولة اللفظية والنسيان المجاني.

أما الحركات والفصائل، فما برحت أدوراها في مزيد من المقامرة بأوراق محروقة. إذ تسعى تارة إلى بعث انتفاضة في سياق معدوم الخيارات (بناءً على عقلية مغلقة في التعاطي معها).

وتارةً أخرى تُخرج من صناديق الأدلجة والتحشيد البرامج الماضوية ذاتها في ما تسميه بضاعة "الوحدة" المستندة إلى مقولة "الدم" باعتباره الأكثر قدرة على فعل ذلك. مما يجعل من مساءلة الوعي ضمن مقاربات إعادة تخليق حركة وطنية ضرورة تتلمس بقايا إشراقات يُبعث بها جيل جديد.

أتى مشروع أوسلو بسياسة العزل المحصن والتقطيع المادي على الأرض. وبلغ ذروته، مضمونا، بإخراج فلسطين من التاريخ القريب، واعتبار النكبة تأسيسا "لفلسطين التاريخية" بحسب السردية المتأخرة.

هنا دفعت إلى السطح مشكلة هُويّاتية مركبة جعلت من الفلسطيني حامل "الهوية الزرقاء" جزءا من متعلقات المجتمع الصهيوني وهواجسه الأمنية والجنائية الداخلية في الوقت الذي لا تخرج فيه عن كونها من المنتجات الفلسطينية التي تصدر عن خطاب سلطوي مأزوم يتلهّى بقواعد تسوية سياسية "ممكنة" على أرض منتهكة تماماً.

نموذج البطل الجليلي، يحضر على المقلب الآخر، بكل تلك الرطانة الزائدة التي تصنعها آلة التصفية السياسية. حيث خيال الممانعة المحدود في الهجوم على الحراك السياسي والاجتماعي في الداخل العميق للأرض المحتلة. ومن هنا يقول الواقع بضرورة رصد التحوّل في علاقة الذاكرة بالزمن، والجغرافيا بالعنصر البشري، والبقاء/ اللجوء بالباقين واللاجئين.

استطاعت الليبرالية الجديدة أن تستهدف لغة الفلسطيني. فبرامج التنمية والخطط الاقتصادية والأمنية، وحتى نمط العمارة، عموديا، أخذ بالهزيمة، أفقيا، إلى شقق الرخاء والرفاه. فأضاءت شموع التضامن مع غزّة حيّزا انعزاليا في رام الله، بينما كان خطاب الاستقرار - يمارس في كل مرة- التخويف الاجتماعي من انفلات الأمن وسوء الوضع الاقتصادي في حالة ذهاب الضفة إلى اشتباك واسع. لغة خليط تشكلت.

لغة المانحين التي عمدت إلى مأسسة الهزيمة وعصرنتها من جهة، ولغة المؤسسة الرسمية التي ذهبت، باتجاه واحد، إلى العالم طالبة منه الاعتراف وتوفير الحماية الدولية عبر قفزات قلقة، بعيدة عن الشارع وتحولاته في قضية التمثيل. إذ يغيب الحضور الشاخص للحركة الوطنية.


(كاتب فلسطيني/ الخليل)


اقرأ أيضاً: هذا الدم

دلالات

المساهمون