في نقد التجربة تاريخياً: هل هُزم الفلسطينيون؟

في نقد التجربة تاريخياً: هل هُزم الفلسطينيون؟

22 يونيو 2015
عبد الناصر وعرفات في القاهرة، 1996
+ الخط -

من مفارقات تاريخنا المعاصر أن فلسطين التي كانت شبه "ولاية عثمانية" وذات أغلبية سكانية إسلامية، وقعت سنة 1917 تحت سيطرة دولة مسيحية هي بريطانيا. والغريب أن هذه الدولة المسيحية عملت على إقامة دولة يهودية في فلسطين.

ومن غرائب المصادفات أيضاً أن ثلاثة بلدان هي الهند وإيرلندا وفلسطين وقعت تحت سيطرة البريطانيين في مراحل مختلفة، لكنها كلها خضعت للتقسيم على أسس دينية، حتى أن قرار تقسيم فلسطين رقم 181 صدر سنة 1947، أي السنة نفسها التي انقسمت فيها شبه القارة الهندية إلى الهند الهندوسية وباكستان الاسلامية، الأمر الذي أدى فوراً إلى مجازر بشرية وترحيل سكاني وكوارث سياسية لم تجد لها أي حل حتى الآن.

وقد تصدى الفلسطينيون لواقع أحوالهم، وحاولوا، بشتى السبل والوسائل، إلغاء نتائج حرب 1947- 1948 كي يتمكنوا من العودة إلى ديارهم. وكان تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في 28/5/1964 شوطاً مهماً في هذا السبيل الذي طالت مسافاته كثيراً.

قبل واحد وخمسين عاماً تداعى الفلسطينيون بدعم متين من الرئيس جمال عبد الناصر إلى مؤتمر تمثيلي في القدس سُمّيَ آنذاك "المؤتمر الوطني الفلسطيني الأول" الذي عُرف في ما بعد بـِ "المجلس الوطني الفلسطيني الأول". وفي هذا المؤتمر جرى الإعلان عن تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية التي أصدرت "الميثاق القومي الفلسطيني" الذي تغير اسمه إلى "الميثاق الوطني الفلسطيني" في سنة 1978.

واليوم، وبعد واحد وخمسين عاماً على تأسيس المنظمة، وبعد خمسين عاماً على انطلاقة المقاومة المسلحة بأيدي مقاتلي حركة "فتح" في 1/1/1965، جرت مياه كثيرة، وجرفت معها أوهاماً وأفكاراً وعقائد وحركات سياسية، وصار لا بد من نقد هذه التجربة، ونقد الرواية الفلسطينية التقليدية التي تقوم على سردية واحدة لا تتغير هي أن الفلسطينيين واجهوا في سنة 1948 قوة أقوى منهم بكثير، وأن الجيوش العربية تخاذلت، وأن بعض العرب خانوا الفلسطينيين، وأن الجميع تواطأ على فلسطين وتركوها عشاء للضباع الصهيونية.

ومع أن هذه السردية صحيحة إلى حد كبير، إلا إنها ليست صادقة تماماً. والسؤال المجدي في هذا السياق هو: لماذا لم تتأسس مقاومة فلسطينية قبل النكبة تخوض قتالاً أكثر فاعلية لمواجهة خطة تجريد الفلسطينيين من أملاكهم وبلادهم؟ لماذا غادر خلال بضعة أشهر أكثر من 860 ألف فلسطيني ديارهم؟ ألم يكن في الإمكان بقاء جزء مهم من هؤلاء في قراهم ومدنهم كما بقي كثيرون في الناصرة وشفاعمرو مثلاً؟ والأسئلة في هذا الميدان كثيرة جداً.

مهما تكن الإجابات عن تلك الأسئلة التي باتت اليوم ذهنية إلى حد بعيد، فإن تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، ثم حركة "فتح"، أطلق موجة من الأسئلة الجديدة أهالت الركام على الأسئلة القديمة. غير أن وقائع التاريخ القريب للنضال الفلسطيني ترغمنا على الانتباه والتأمل في المفارقة التالية:

إن الأهداف السياسية الفلسطينية لم تكف عن الانكماش بين كل مرحلة ومرحلة؛ فمن برنامج تحرير كامل التراب الفلسطيني سنة 1965 (برنامج الانطلاقة) إلى فكرة الدولة الفلسطينية سنة 1971 (بعد الخروج من الأردن)، إلى البرنامج المرحلي أو برنامج النقاط العشر سنة 1974 (بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973)، فإلى خطة فاس سنة 1983 (بعد الخروج من بيروت سنة 1982)، ثم إلى برنامج الاستقلال سنة 1988 (غداة الانتفاضة الأولى سنة 1987)، وأخيراً برنامج السلام بحسب مؤتمر مدريد سنة 1991 (بعد اندحار الجيش العراقي في الكويت سنة 1990) والذي أفضى إلى اتفاق أوسلو سنة 1993.

وكانت هذه الأهداف تتدحرج نزولاً في الوقت الذي كانت المقاومة الفلسطينية تتقدم صعوداً، ولو بتعرج: من تأسيس حركة فتح سنة 1959، إلى تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964، فإلى إعلان الكفاح المسلح سنة 1965، ثم إلى مرحلة النهوض العسكري (الانطلاقة الثانية) بعد هزيمة 1967 (وفي سياقها وقعت معركة الكرامة سنة 1968)، حتى الاعتراف الرسمي العربي والعالمي بمنظمة التحرير الفلسطينية في مؤتمر القمة العربية في الرباط سنة 1974 ووقوف ياسر عرفات أمام العالم على منبر الأمم المتحدة في العام نفسه.

إن تدحرج الأهداف السياسية الفلسطينية باستمرار، وانكماشها بالتدريج، يجدان تفسيرهما في عوامل متشابكة ومتعددة كتهتك الوضع الاستراتيجي للعرب بعد خروج مصر (ثم الأردن) من الصراع العربي – الصهيوني، أي مع زيارة الرئيس أنور السادات إلى القدس سنة 1977، ثم تحطيم العراق سنة 2003، وها هي عملية تدمير سورية جارية باطراد منذ سنة 2011.

وتخلل هذه الحقبة اندثار الاتحاد السوفييتي الذي كان المعادل الأممي للولايات المتحدة الأميركية الحليفة الثابتة والقوية لإسرائيل، وانهارت مشروعات النهضة والتقدم في العالم العربي، وأخيراً خراب المجتمعات العربية بأيدي النظم الاستبدادية وبمخالب الجماعات التكفيرية الاسلامية المسلحة.

وبهذا المعنى فإن المدى العربي الذي نشأت في شعابه الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير معاً، صار ضيقاً جداً بعد ثلاث حروب مروِّعة بدأت بالحرب العراقية – الايرانية سنة 1980، وأعقبها الاجتياح العراقي للكويت سنة 1990 ثم إخراج الجيش العراقي بالقوة من الكويت سنة 1991، فالاحتلال الأميركي للعراق سنة 2003.

وفي هذا المدى العربي راح الجميع يضيق بالقضية الفلسطينية ويتسربل بالخوف معاً؛ فالكل في خوف داهم: دول الخليج العربي ومعها السعودية تخاف التوسع الايراني، وترتعش أمام امتداد الإرهاب إلى ديارها، وترى في قضية فلسطين عبئاً عليها. والأردن يخشى "الترانسفير" الفلسطيني. ولبنان يرى أن القضية الفلسطينية ليست وحدها عبئاً عليه بل إن الفلسطينيين المقيمين فيه هم العبء الحقيقي، فضلاً عن سورية والعراق ومصر وليبيا واليمن التي تحولت إلى أرض مشتعلة لا تنطفئ نارها أو يخمد أوارها.

ما عادت فلسطين قضية العرب الأولى، بل صار لكل دولة "فلسطينها". فلسطين السعودية هي الحوثيون وايران. وفلسطين الجماعات الإسلامية المسلحة هي إقامة دولة الخلافة. وفلسطين العراقيين والسوريين هي محاربة داعش وأمثالها. وهذه الهواجس العربية الراعبة دفعت بعض الدول العربية إلى استجداء أمنها من أميركا، ومن إسرائيل أيضاً بطريقة غير مكشوفة، حتى باتت إسرائيل كالعشيقة السرية؛ الجميع يريدها والجميع يخجل من افتضاح علاقته بها.

بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 انتزعت فلسطين مكاناً لها على جدول أعمال المجتمع الدولي، وتمكن ياسر عرفات من أن يخرق الجدار الحديدي حوله، ومن أن يتسيد منبر الأمم المتحدة في 13/11/1947. ومنذ ذلك الوقت واسرائيل ما برحت تتطلع إلى إقصاء قضية فلسطين عن مكانتها لدى العرب وغير العرب.

بالطبع، لم تنجح إسرائيل في هذا الإقصاء، بل فشلت. لكن الفلسطينيين بدورهم فشلوا في تحقيق أهدافهم حتى في حدها الأدنى. فقد جرى عملقة الأهداف الفلسطينية من دون أن يمتلك الفلسطينيون العدة الجدية لتحقيق هذه الأهداف.

وجرى تعظيم قوة الخصم من غير أن يلحظ كثيرون أن إسرائيل نفسها ليست عظيمة؛ فقد انتهت سياسة التوسع الجغرافي، وفشلت عقيدة التوسع بالجيش، ورسمت إسرائيل "حدودها" مع مصر والأردن ولبنان، ومع سورية تقريباً، وأدارت ظهرها لفكرة تجميع يهود العالم في فلسطين. والمؤكد أن إسرائيل لم تتخلَّ عن ذلك بطيبة خاطر، بل جرّاء مقاومة لم تنقطع منذ نحو خمسين سنة متواصلة.

النافر في تاريخنا المعاصر أن جميع ثورات التحرر الوطني تمكنت من طرد الاستعمار، ونالت الدول المستَعْمَرة استقلالها كالجزائر وفيتنام وكمبوديا ولاوس، واستطاعت الثورات المعادية للعنصرية أن تقضي على أنظمة الفصل العنصري وتؤسس دولاً ديمقراطية جديدة مثل زيمبابوي (روديسيا سابقاً) وناميبيا وجنوب أفريقيا.

غير أن التاريخ أخلف وعده، حتى الآن، في فلسطين؛ فبعد سبع وستين سنة على النكبة، وخمسين سنة على النضال المسلح، ها هم الفلسطينيون يستجدون الأمم المتحدة ويلوذون بعضوية هذه المنظمة الدولية أو تلك. هل هُزم الفلسطينيون إذاً؟ هل انتهى عصر التسويات السياسية الذي دشنته مصر سنة 1977؟ هل إن قضية فلسطين مشكلة لا يمكن حلّها؟

لعلي، في معرض الإجابة، أجازف بالقول إن الفلسطينيين، والعرب معهم، لم يكونوا منذ مئة سنة في وضع الهجوم ليُقال إنهم هُزموا حقاً، بل كانوا طوال هذه الحقبة في وضع الدفاع عن النفس في مواجهة هجوم استعماري متمادٍ. وفي أي حال، فإن موسم القطاف الفلسطيني لم يحن أوانه بعد، ولم تتمكن منظمة التحرير الفلسطينية من تحويل التضحيات الجبارة للفلسطينيين إلى أوراق رابحة في الجغرافيا.

ومع ذلك فإن زمن الحصاد سيأتي بلا ريب. ولنتذكر أن الجيش الألماني كان يحتل 90% من مدينة ستالينغراد في الحرب العالمية الثانية، وكان كثير من الروس يعتقدون أنهم هُزموا. وفي لحظة تاريخية من التحولات المتفاعلة انقلب هذا الاحتلال إلى هزيمة ساحقة، وتمكن الـ 10% من الانتصار، ووصل الجيش السوفياتي إلى برلين.

لنتذكر أيضاً أن شعار المحاصرين في ستالينغراد كان "لا أرض لنا وراء الفولغا"، فقاتلوا فوق آخر أرض لهم وانتصروا. وفلسطين هي أول وآخر أرض للفلسطينيين، ولا أرض لهم خلف الأردن.


(باحث فلسطيني/ بيروت)

المساهمون