الخدمات.. سِر تفوُّق الإنجليز!

الخدمات.. سِر تفوُّق الإنجليز!

22 يونيو 2015
تلعب بريطانيا دورا مهما في الاقتصاد العالمي (Geety)
+ الخط -
لعقود طويلة مضت، منذ أن كانت بريطانيا رائدة العالم بلا منازع في التجارة والتمويل، ولا يزال البريطانيون يختلفون حول الأداء الاقتصادي لبلدهم. بالنسبة للبعض، كانت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية العصر الذهبي للاستقرار والازدهار المتنامي. وبالنسبة للآخرين، فإن تلك الفترة ترمز إلى بدء التراجع التدريجي لبريطانيا كقوة صناعية كبرى. ومثلما تتم الإشادة بحقبة "مارغريت تاتشر"، التي بدأت قبل ثلاثين عاماَ، باعتبارها انتصاراً للاقتصاد الحر، فإن نفس الحقبة لا تزال تتلقى انتقادات واسعة لإسهامها في تبديد الميزة التنافسية العالية التي كانت تشكلها الصناعة في بريطانيا، بعد أن جرى تهميش القطاع الصناعي على حساب قطاع خدماتي قوي ومزدهر.

في بداية القرن الثامن عشر وخلال ما أصبح يُعرف بالثورة الصناعية الاولى، كانت المملكة المتحدة أول بلد يدخل مرحلة التصنيع الحديث، حيث كان لها دور مهيمن على الاقتصاد العالمي، استمر حتى أواخر القرن التاسع عشر عندما بدأت الولايات المتحدة وألمانيا تشاركانها هذا الدور مع دخولهما الثورة الصناعية الثانية. إضافة إلى ذلك، أدى ارتفاع تكاليف القتال، خلال الحربين الكونيتين، إلى إضعاف المكانة العالمية للاقتصاد البريطاني الذي احتفظ، رغم ذلك، بدور مهم في الاقتصاد العالمي من خلال قطاع الخدمات المالية الحيوي واقتصادها القائم على المعرفة.

تأثرت بريطانيا كثيرأ من تبعات الحرب. في عام 1976، اضطرت الدولة لطلب قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة 2.3 مليار جنيه استرليني، وكان على وزير الخزانة، دنيس هيلي، خفض الانفاق العام والقيام بإصلاحات اقتصادية أخرى من أجل تأمين القرض. تحسن الاقتصاد البريطاني لفترة من الوقت، ولكن في أعقاب مرحلة "شتاء السخط"، وهي المرحلة التي اتسمت بإضرابات واسعة النطاق شلت القطاع العام، فقدت حكومة "جيمس كالاهان" نصابها البرلماني بعد التصويت بحجب الثقة عنها في مارس 1979. أدى ذلك إلى اجراء انتخابات عامة مبكرة، في مايو/ أيار 1979، أسفرت عن فوز حزب المحافظين، بقيادة مارغريت تاتشر، التي عُهد اليها تشكيل حكومة جديدة.

بدأت مرحلة جديدة من الاقتصاد الليبرالي الجديد، في عام 1979، مع بداية حكم تاتشر، وعودة حزب المحافظين إلى الحكم بعد خمس سنوات من حكم حزب العمال. خلال عقد الثمانينيات، تمت خصخصة معظم الشركات المملوكة للدولة، وخُفٍّضت الضرائب، وحُرٍّرت الاسواق. في البداية، انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 6%، ولكنه عاد ليسجل نمواً في السنوات اللاحقة حتى بلغ ذروته في عام 1988 ليصل إلى 5%، وهو واحد من أعلى معدلات النمو التي سُجلت في القارة الأوروبية خلال ذلك العام.

مع ذلك، لم تكن الحداثة، التي جلبتها تاتشر، خالية من المتاعب، فقد أسفرت معركتها ضد التضخم عن زيادة كبيرة في معدلات البطالة خلال منتصف الثمانينيات وحتى مطلع التسعينيات، نتيجة سياسة حكومتها الداعمة لإغلاق مصانع وصناعات قديمة، والتوقف عن حفر مناجم الفحم التي لم تعد مجدية اقتصاديا، وسط إرتفاع الاصوات المنتقدة لسياسة تهميش قطاع التصنيع. في الواقع، فإن قطاع التصنيع لم يعد يشكل، اليوم، أكثر من 10% من حجم الاقتصاد الكلي بعد أن كانت بريطانيا قوة صناعية عالمية يُعتدُّ بها.

في مايو/ أيار 1997، عاد حزب العمال، بقيادة "توني بلير"، الذي تسلم دفة قيادة الحزب منذ وفاة سلفه جون سميث قبل ذلك بثلاث سنوات، إلى السلطة بعد بقائه 18 عاماً في المعارضة. خلال عشر سنوات من حكم بلير، شهد الاقتصاد البريطاني أربعين رُبعاً سنويا متتالياً من النمو الاقتصادي، الذي استمر حتى الربع الثاني من عام 2008، تمكنت بريطانيا فيها من تسجيل واحدة من أعلى معدلات النمو الاقتصادي من بين الاقتصادات المتقدمة الكبرى خلال تلك الفترة. حدث ذلك بفضل حرص بلير على إبقاء الضرائب منخفضة نسبياَ، وتعزيزه لقطاع الخدمات تحديداً، وتخليه عن سياسات حزبه التقليدية الداعمة للملكية العامة للصناعات والمرافق العامة.

ساعدت هذه القرارات اقتصاد المملكة المتحدة أيضاً، على إبقاء معدلات التضخم وأسعار الفائدة والبطالة متدنية نسبياَ، إلى أن ضرب الركود الاقتصادي العالم خلال عامي 2008 و2009، ما أدخل الاقتصاد البريطاني في دائرة الكساد الذي لم يستمر طويلا، فقد أظهرت الأرقام الاخيرة أن بريطانيا في وضع قوي لتكون أفضل الاقتصادات الكبرى أداء في العالم بعد تحقيقها نمواً بواقع 2.6% في عام 2014، وهو الأفضل لها منذ عام 2007.

في الواقع، يعود الجزء الأكبر في تعافي الاقتصاد البريطاني سريعاً من تداعيات الازمة الاقتصادية العالمية إلى عودة الروح إلى قطاع الخدمات للبلاد، والذي بات يشكل نحو 80% من الناتج الاقتصادي البريطاني بعد ان كان يستأثر بنصف الناتج الاجمالي في عام 1928، وهو ما يفسر تميز بريطانيا، لفترة طويلة، بقطاع خدمات متطور جعل لندن أكبر مركز مالي في العالم، أمام قطاع صناعي فقد بريقه مع تتطلع الشركات الصناعية المحلية للإنتاج بتكلفة أقل في مكان آخر خارج البلاد.