تعليم العقل... اليد... والروح

تعليم العقل... اليد... والروح

12 ديسمبر 2015
فلسفة والدورف هي أن تحب العلم بشكله المجرد(Getty)
+ الخط -
قرار اتخذته منذ نحو ست سنوات وأعيد اتخاذه بشكل قد يكون يوميا، هو قرار تعليم أولادي، أتذكر هذا القرار يوميا، حيث علينا الاستيقاظ قبل طلوع الشمس للاستعداد لرحلة المدرسة التي تستمر لمدة 45 دقيقة، في حين أن معظم وإن لم يكن كل من يعيشون حولنا لا تبعد مدرستهم عن البيت أكثر من خمس دقائق بأتوبيس المدرسة الذي أستطيع أن أرى محطته من شرفة منزلي.

لماذا تفعلين هذا بنفسك؟ سؤال اعتدته واعتدت الإجابة عليه، الحقيقة أن الموضوع بدأ صدفة، فعندما كان ابني الأكبر لا يتعدى الثلاث سنوات انتقلت صديقتي إلى منزل جديد، وحكت لي عن جيرانهم الجدد وبناتهم 6 و 10 سنوات ، حكت لي كيف يتعامل هؤلاء البنات بلطف شديد مع أطفالها الصغار، وعن مدرستهم التي تقدم تعليما مختلفا؛ فالأطفال من ( 3- 6) سنوات يتعلمون عن طريق محاكاة المدرسين، وما يتعلمونه في هذه السن الصغيرة هو خبرات حياتية فقط، فلا تعليم أكاديمي قبل سن السابعة.

كيف لا يسمح لهم بمشاهدة التلفاز أو ألعاب الكمبيوتر، والأطفال يقضون الجزء الأكبر من وقتهم بالمدرسة يلعبون ويستكشفون ويتسلقون أشجار الغابة التي هي جزء من المدرسة. من هنا بدأت رحلة بحث استمرت سنة تقريبا، قرأت فيها كل ما وقعت عليه عيني عن "تعليم والدورف".

تعليم والدورف
الباحثة في داخلي وجدت مادة شيقة للبحث فيها، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بأولادي، فإن حاسة البحث والحرص تتفاقم بشكل قد يكون مرضيا ولكنه بالنهاية مفيد.

تعليم والدورف مبني على الفلسفة التعليمية لرودولف استينير، فيلسوف وعالم نمساوي ومؤسس علم طبائع البشر(Anthroposophy)، أنشئت أول مدرسة عام 1919 بمدينة شتوتغارت الألمانية بمبادرة من صاحب مصانع والدورف إستوريا، من هنا جاءت التسمية والدورف، أراد إيمل مولت تعليما مختلفا لأبناء العاملين في مصنعه؛ تعليم ينمي الابتكار ويساعدهم على إيجاد التوازن والجمال في داخلهم ويربطهم بالبيئة والكون من حولهم، خصوصا لما كانت تمر به أوروبا الوسطى من آثار دمار ويأس بعد الحرب العالمية الأولى.

أعجبت بمبادرة مولت؛ وخصوصا عندما قرأت أنه تم محاربة مدارس والدورف وإغلاقها في ظل سيطرة الحكومة النازية، حيث لا مكان لتعليم يشجع على التفكير الفردي والابتكار.

ألف مدرسة
يوجد الآن ما يقرب من ألف مدرسة حول العالم تتبع فلسفة والدورف، مائة وخمسون منها في أميركا الشمالية. وكأي شيء مختلف وجدت مؤيدين لهذا النوع من التعليم ومعارضين له، مؤيدين من خلال مواقع ومدونات تتحدث عن توليفة والدورف السحرية التي تجمع بين تعليم العقل واليد والروح، ومعارضين لهذا التعليم لدرجة التخويف منه، فهم يرونه تعليما دينيا مقنعا، مهمته السيطرة على عقول البشر في سن صغيرة.

يرى المؤيدون أن استمرار نفس المدرس مع الطلاب لثماني سنوات متواصلة يؤدي إلى علاقة فريدة ومميزة يستفيد منها الطالب لمعرفة المدرّس الوثيقة به؛ يراها المعارضون جزءا من الخطة المحكمة للسيطرة على عقول الطلاب من خلال شخص مدرّسهم الذي يعرفهم جيدا ويعرف نقاط قوتهم وضعفهم.

حتى هذه اللحظة في رحلة البحث، كان الفرق الرئيسي بين المعارضين والمؤيدين، أن المعارضين خطابهم تخويفي يعتمد على نظرية المؤامرة ويخاطب المشاعر، والمؤيدين خاطبوا عقلي بخطاب منطقي. ولكن كأم، في طريقها لاختيار مدرسة لابنها الوحيد وقتذاك، خطاب المشاعر التخويفي يعلو صوته أحيانا. لكنني أقنعت نفسي بأن أقوم بزيارة المدرسة في اليوم التجريبي ( يوم يقوم فية أولياء الأمور المهتمون بزيارة المدرسة لقضاء يوم مدرسي مصغر).

في الليلة السابقة لهذا اليوم، لا أعلم لماذا اقتادني بحثي مرة أخرى للصفحات المضادة لتعليم والدورف ( Waldorf Critics )، تحدثت لزوجي يومها عما قرأت وعن قلقي، وبالرغم من أنه كان يفضّل وقتها أن نختار مدرسة بجوار المنزل، إلا أنه قال لي "ما هو مكتوب عن الإسلام والمسلمين على مواقع الإنترنت والمدونات المضادة للإسلام أسوأ، فهل هو صحيح"؟

اقرأ أيضا: "تعرف فلانة...شوفتها وهي بتذاكر لعيالها؟"

رائحة الخبز

ذهبت ذلك اليوم بعقل وقلب مفتوحين لأحكم بنفسي. دخلت فصل التعليم ما قبل الأساسي، استقبلتني رائحة خبز بالفرن في حجرة كبيرة تحوي مائدتين مستطيلتين وحولها مجموعة من الكراسي، ألعاب خشبية وعرائس يبدو أنها يدوية الصنع، موقد كهربائي وفرن وثلاجة. الغرفة بسيطة وألوانها هادئة. ولا مكان فيها لألعاب أطفال إلكترونية أو أي شيء يعمل ببطارية.

مع رائحة الخبز استقبلتني معلمة الفصل بحضن ترحيب صاحبة المنزل، هذا بالضبط الشعور الذي شعرت به، أنني ببيت؛ فهمت بعد ذلك من شرح المعلمة أن فلسفة المدرسة هي أن يشعر الطفل أنه في بيت جدّيه وليس في المدرسة، فالأطفال يتعلمون في بيوتهم بشكل تلقائي. جلست أنا ومن معي من آباء وأمهات حول المائدة وناولت المعلمة كل منا قطعة من العجين، تحدثت كيف يقوم الأطفال أسبوعيا بطحن القمح يدوياً لتحويله إلى طحين، ثم يقومون معا بعجنه، كل طفل يعجن قطعة صغيرة ثم تقوم المدرسة بتجميع كل قطع العجين لصنع رغيف خبز كبير يأكل منه الجميع، شرحت كيف ينمي هذا شعور الطفل بأنه جزء من الكل، كما أنه يقدر الوقت والجهد المبذول في صناعة ما قد يبدو له شيئا سهلا ومتوافرا كرغيف الخبز.

الفصل الواحد يضم عشرين طفلا بين سن الثالثة والسادسة والنصف، كل الأطفال في الفصل لديهم مهام يجب القيام بها، بين تطبيق المفارش الصغيرة، إعداد مائدة الغذاء، صب الحساء والماء للجميع، تقطيع الخضروات والفاكهة. هذا وتكون المهام الأصعب من نصيب الأطفال الأكبر سنا. وكل يوم أثناء التحضير للخروج للعب في الخارج، والذي قد يبدو مستحيلا في جو سياتل الممطر، يقوم الأطفال الأكبر سنا بمساعدة الصغار في ارتداء ملابس المطر والتأكد من أن الكل جاهز للخروج.

لا يمسكون القلم
سأل أحد الآباء عن فكرة أن الأطفال لا يمسكون القلم إلا للتلوين أو الرسم، وكيف أن الطلاب في سن الخامسة في المدارس الأخرى سيتعلمون الحروف والأرقام، وبعضهم سيتعلم الكتابة والحساب، في حين أنه تبعا لنظام والدورف، لا تعليم أكاديميا قبل الصف الأول الابتدائي في سن السابعة، وكيف ممكن أن يؤثر ذلك على الأطفال سلبا مقارنة بأقرانهم.


ابتسمت المعلمة وقالت إن هذا سؤال معتاد، وأنها تتفهم تخوف الآباء خصوصا، ففي ظل زمن يروج فيه لبرامج تعليمية للأطفال الرضع، من الصعب الاستسلام لفكرة أنه لا تعليم أكاديميا قبل السابعة، شرحت المدرسة كيف أنه من الممكن فرض القراءة والكتابة على الأطفال في سن صغيرة، ولكن فلسفة والدورف تريد أن تنمي حب العلم عند الطفل، العلم بشكله المجرد.

كما أنها تهتم في هذا السن الصغيرة بتنمية خيال الطفل من خلال حكايات وقصص تنمي حصيلتهم اللغوية، بالإضافة إلى أن طفل السادسة سيكون عنده معلومات عن البيئة وأنواع الأشجار والطيور والحشرات المختلفة من خلال خروجة بشكل يومي للعب في الغابة، سيتعلم مما وكيف يصنع الطعام، سيزرع ويعتني بالخضروات في حديقة المدرسة، وسيكون عنده شعور بالمسؤولية والانتماء تجاه الكون من حوله. تذكرت وقتها مقالة كنت قرأتها عن نظام التعليم الفنلندي كأفضل نظام دراسي حول العالم، وكيف يتأخر فيه التعليم الأكاديمي لسن السابعة أيضا.


جاء موعد الأكل، قامت المعلمة بتقديم الحساء والخبز، وقبل البدء سألتنا أن نردد وراءها مباركة الأكل التي يرددها الأطفال يوميّا، لا أنكر أن جزءا مني شعر بالقلق وبدأت كل صفحات الإنترنت المضادة لتعليم والدورف تظهر أمام عيني، وفي الخلفية سمعت المدرسة تردد:

Blessings on the blossoms
Blessings on the roots
Blessings on the leaves and stems
And blessings on the food.
بركات على الأزهار… بركات على الجذور... بركات على الأوراق والفروع… بركات على الطعام...
سمعت المباركة... رددتها... قلت بِسْم الله... وبدأت الأكل.


هل ألحقت ياسمين أولادها بتعليم والدورف.. تابعها في الحلقة القادمة.

اقرأ أيضا: حقائب ملغمة... يحملها أبنائي على ظهورهم

المساهمون