اقتصاد العطش... مصر نموذجاً

اقتصاد العطش... مصر نموذجاً

29 يوليو 2015
المصريون يعانون من أزمة المياه (فرانس برس)
+ الخط -
مرة أخرى تتمدّد مظاهرات العطش في محافظات مصر. الاحتجاجات المتعلقة بتوفير مياه الشرب أو الري ليست بجديدة فقد عرفت مصر منذ 2007 احتجاجات تطالب بتوفير مياه الشرب، انتشرت في مناطق عديدة واتخذت أشكالاً متنوعة: تظاهر واعتصام وتجمهر لمواطنين أغلبهم من النساء يحملون جراراً فارغة أو أواني الطبخ وأدوات الاستحمام. 
إذن نحن أمام أزمة مائية قديمة، أهم مظاهرها نقص المياه وسوء نوعيته وعدم ملاءمته للاستخدام الآدمي، حيث تتعاظم الأزمة في أشهر الصيف بحكم ارتفاع معدل الاستخدام، ومع الصيف يحتج الناس حيث لا يحتملون انقطاع مياه الشرب لأوقات طويلة، وتتعدّى حالات انقطاعها في بعض المناطق شهراً كاملاً.

اقرأ أيضاً: خصخصة الأمن في مصر: إزهاق للمال العام

وتبرز الأزمة في مناطق الأطراف، حيث التوسع العمراني غير المخطط، ونمط الحياة الذي يعاني فيه السكان من الإهمال والتهميش، فقد نشأت تلك الأماكن على وقع أزمة السكن التي لم توفر الدولة لها الخدمات، وتُرِكَ سكانها يديرون شؤون حياتهم بأنفسهم، حيث عليهم توفير خدمات مياه الشرب والصرف الصحي. والأمثلة في عشوائيات القاهرة الكبرى عديدة وهي المناطق الأكثر كثافة من حيث السكان والأكثر بؤساً وحرماناً من الخدمات.

ولا تختلف حالة عشوائيات باقي محافظات مصر عن حالة الفقر المائي الأكثر وضوحاً في عشوائيات القاهرة الكبرى، بل إن إحصاءات شركة المياه والصرف الصحي تشير إلى حرمان 88% من القرى المصرية من خدمات الصرف الصحي، وافتقاد كثير من القرى إلى مياه الشرب واعتمادها على طلبات المياه الجوفية.

هذه الأزمة المائية تسبب بطبيعة الحال أزمات صحية متتالية للسكان وتعمل على رفع فاتورة العلاج، وبطبيعة الحال فقدان جزء من قوة العمل، الأمر الذي ينتج هدراً اقتصادياً بفعل المشكلة الأصلية، أي مشكلة المياه.

ولعل هذا الإشكالية تحيلنا إلى النظر في معالجة الدولة المصرية للأزمة منذ العام 2005. إذ ناقشت أجهزة الدولة على تنوعها طبيعة الأزمة وسبل حلها، إلا أن الدراسة والمناقشة والحل اصطدم مع التوجهات الاقتصادية.

اقرأ أيضاً:مصريون يفضحون الفساد: قطط في المستشفيات وبط في الجامعات

ثمة أسباب عديدة خلف أزمة المياه منها انخفاض نصيب الفرد من المياه إلى حدود نصف المعدل العالمي. لاسيما أن اعتماد مصر في مياه الشرب ينحصر بمصدر واحد، وهو مياه نهر النيل. الأمر الذي يدفع أزمة مياه الشرب إلى التزايد سنوياً، بفعل التراجع الملحوظ في الإنفاق العام، وضمنه بند الصرف على خدمات السكن والمرافق.

وتلجأ الحكومة إلى حل الأزمة بشكل مؤقت عبر صيانة شبكات وخطوط شرب متهالكة، فضلا عن أن محطات مياه شرب لا تزيد مدتها الافتراضية عن 15 عاماً، وبرغم ذلك لا يتم بناء محطات جديدة وتكتفي الدولة بالصيانة. الأمر الذي يعد إهداراً للمال العام، إذ يتلخص حل المشكلة في إنشاء شبكات جديدة، حتى لو ارتفعت التكلفة، فإن الدولة ستوفر على مدى زمني طويل مصاريف الصيانة لتصل إلى مستوى أقل من التكلفة السنوية.

وإذا أخذنا في الاعتبار الفساد الإداري، مع افتقاد التخطيط في عملية الصيانة السنوية وبنود الصرف على خدمات الإسكان والمياه والصرف الصحي، سوف نرى مدى الهدر المالي لموارد الدولة. ويمكن القول إن أزمة المياه لها أسباب ومظاهر متنوعة ترتبط بما يمكن تسميته باقتصاد العطش، حيث يرتبط بأزمة السكن وتوسع النمط العقاري غير المخطط، إلى جانب ارتفاع نسب سكان تلك المناطق مع انخفاض نصيبهم من مياه الشرب.

اقرأ أيضاً: رياضيات السلطة: ألف مصدّر = 89 مليون مصري

من جهة أخرى، تنتج أزمة مياه الشرب مشكلات صحية لقطاعات السكان المتضررة من العطش، ما يرفع فاتورة الخدمات الصحية. ذاك أن ما تحاول الدولة توفيره من صرف على بنود الخدمات، ومنها بنود الصرف على مياه الشرب والصرف الصحي، يتم صرفه مرة أخرى لمعالجة توابع الأزمة المائية. ومع توسع أزمات السكن والخدمات تزداد معاناة السكان، ما يعني أن غياب خطط الدولة لخلق تنمية اقتصادية متكاملة وحقيقية تضع المجتمع في أزمات متتالية ومترابطة، إذ إن اقتصاد العطش في النهاية ناتج من سياسات الدولة وتوجهاتها وانحيازاتها الاجتماعية.
(باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية - جامعة القاهرة)

المساهمون