في رحيل محمد خان

في رحيل محمد خان

02 اغسطس 2016
المخرج السينمائي الراحل محمد خان
+ الخط -
في 26 يوليو/ تموز 2016، يرحل السينمائيّ المصري محمد خان، بعد أشهر عديدة على إنجازه آخر فيلم له، بعنوان "قبل زحمة الصيف". أحد أبرز صانعي "الواقعية الجديدة" في السينما المصرية، المنقلبة على "أفلام المقاولات"، المنتجة في ظلّ الانفتاح الاقتصادي الساداتي، يصنع جزءاً من التاريخ الحديث لسينما عربية مختلفة وصادمة وسجالية، ويُساهم في إبراز بعض الإبداع في الأداء التمثيلي لممثلين محترفين. 

يُشكِّل الحوار النقدي السجالي مع المخرج السينمائي محمد خان، المنشور في كتاب "أنا المخرج، شهادات حول فن التمثيل" ("دار ميريت"، القاهرة، 2014)، للكاتبة المصرية الراحلة نادين شمس، حيّزاً ثقافياً وجمالياً، يُتيح تأمّلاً في العلاقة التي يُقيمها المخرج مع الممثل، بدءاً من لحظة اختياره الممثل في هذا الفيلم أو ذاك، وانتهاءً عند التفاصيل الدقيقة التي تؤسّس جوهر العلاقة، وتُنظّمها. يستعيد خان، الراحل صباح 26 يوليو/ تموز 2016، عن 74 عاماً، مسارات مهنية يبنيها مع ممثله المفضّل أحمد زكي، ومع آخرين أيضاً، أمثال سعاد حسني ونجلاء فتحي وعايدة رياض ونبيلة عبيد، ومحمود حميدة ويحيى الفخراني وعادل إمام، وغيرهم.

"لأني أرى الفيلم"

في الحوار هذا، يحلِّل محمد خان نظرته الخاصّة بالتعامل مع الممثل، وآليات عمله وكيفية اشتغاله معه. النصّ المنشور في الكتاب معقودٌ على أجوبة السينمائيّ فقط، فيُصبح النصّ حكاية تروي ما يراه المخرج في الممثل، وما يريده المخرج من الممثل، وما يسعى إليه المخرج، بتعامله مع ممثل من دون آخر، في بناء الفيلم ومناخه وفضاءاته المتنوّعة. والنصّ، إذْ يستفيض في تحديد المعالم وجوهرها في العلاقة تلك، يتحوّل إلى مرآة تعكس شيئاً من جوانية المخرج، ومن رؤيته الجمالية والثقافية والدرامية للشخصية، التي يختار هذا الممثل أو تلك الممثلة لتأديتها.
يؤكّد خان أن دوره كمخرج يبدأ منذ اللحظة التي يُقرِّر فيها أن هذا الممثل، تحديداً، "يصلح لأداء دور معيَّن". يتوقّف عند قول عنه، مفاده إنه "مخرج ديكتاتور"، لا يعطي فرصة للممثلين لمناقشته. لكنه يرى أن مردّ هذا كله كامنٌ في أنه يرى الفيلم بكل تفاصيله، "ولا أحد يستطيع أن يراه كما أراه أنا"، معتبراً بكل ثقة أن هذا لا يُعتبر "ديكتاتورية". فالتمعّن في أفلامه المختلفة، يكشف براعة فائقة في اختيار ممثلين لأدوار، يتوصّل الأولون إلى تقديمها بجمالية نابعة من حيويتهم الخاصّة أولاً، ومن حساسيتهم الأدائية ثانياً، ومن الرؤية الثاقبة للمخرج ثالثاً، تلك الرؤية التي تتأتّى من وعي معرفي مسبق للمخرج نفسه، بخصوص الممثل والشخصية والدور في آن واحد، بالإضافة إلى الموضوع والمعالجة والتوجّه والاختبار السينمائي.

بهذا، يؤكّد محمد خان، فيلماً تلو آخر، أنه هو وحده من يرى الفيلم بكل تفاصيله، ما يدفعه إلى صرامة يتيحها لنفسه، كي يبني عمارته السينمائية كما يريد، وكما يرى، وكما يشعر. رؤيته الفيلم تعني، في هذا المجال أيضاً، أنه ذو نظرة ثاقبة، تؤهّله، مراراً، لجمالية الاختيار، وإنْ يقع، أحياناً، في مطبّات العمل السينمائي برمّته، مع أن عمله هذا نادراً ما يُقدِّم ممثلين عاديين، وبعضهم "نجومٌ" تستهويهم الأضواء، فإذا بهم، مع محمد خان، يستعيدون ألقاً تمثيلياً يختبرونه مراراً، فيبلورون آفاقه معه.

هو نفسه يقول إنه، من فيلمٍ إلى آخر، تزداد خبرته في التعامل مع الممثل. هو نفسه يعترف أنه لا يقول للممثل "كيف يمثّل"، لكنه ـ في الوقت نفسه ـ يحبّ معرفة "من" يتعامل معه، "أولاً، على مستوى شخصي". أي أنه يستمع إليه، ويطلب منه أن يُكلّمه: "في حياتي العادية، أحبّ أن يحكي لي الناس، أكثر من أن أحكي لهم، وهذه النقطة تساعدني جداً في الإخراج، لأنها تتيح لي أن أرى الممثل كإنسانٍ، وليس فقط كمؤدٍّ للشخصية. هذا يساعدني في تحديد أقصى ما يستطيع أن يعطيني إياه". 

تأسيس واقعية سينمائية جديدة

من يتابع المسار التاريخي للسينما المصرية، يُدرك تماماً أن محمد خان أحد أبرز السينمائيين المُشاركين في إيجاد ما يُعرف بـ"حركة الواقعية الجديدة"، في هذه السينما. يقولون إنه "أول سينمائي يبدأ الإخراج" في الحركة هذه، إلى جانب خيري بشارة وداود عبد السيد وعاطف الطيب ورأفت الميهي. يقول الناقد السينمائي المصري أحمد شوقي، في كتابه "محظورات على الشاشة، التابو في سينما جيل الثمانينيات" (سلسلة "آفاق السينما"، رقم 85، "الهيئة العامة لقصور الثقافة"، القاهرة، 2015)، إن سينما خان، المُشارك الإيجابيّ في أفلام كثيرة لزملائه المخرجين الآخرين، خصوصاً عاطف الطيب، تحمل "الصورة الأبرز لسمات الحركة، من الحبكات المختزلة، وإعلاء قيمة الشخصية فوق الحدث، والحضور الطاغي للمكان" (ص. 49).

يُضيف شوقي أن المشروع السينمائي لمحمد خان يمتاز بـ"الديناميكية الشديدة، وبالتطور المستمر في مستوى التناول الفكري، والتنفيذ التقني، مع الاستعانة بكتّاب سيناريو موهوبين لصياغة أفكاره في قوالب، تتمتع بالجاذبية الجماهيرية، من دون أن تفقد القيمة الفنية" (ص. 54). لكن تحليل هذا الوصف، يبدأ بالتوقّف عند تعبير "مشروع"، إذْ يروي الكاتب المصري جمال الجمل أن لقاءً قديماً بينهما يتحوّل إلى أزمة، فخصام، لشدّة الحساسية السلبية للمخرج إزاء التعبير، ناقلاً عنه قوله: "ليس عندي مشروع، والسينما ليست مضامين. السينما قطعة عفوية من الحياة، أقتلها بمنتهى الخسّة لو حبستها في قفص التخطيط والتحنيط" ("السفير" اللبنانية، 27 يوليو/ تموز 2016).

إذاً، بين انخراطه العمليّ، المتمتّع بحساسية مرهفة في مقاربة أحوال الواقع والمجتمع والناس، وبين إقدامه على اختبار تقني يدفعه إلى الاستعانة بتقنية "ديجيتال"، في "كليفتي" (2004)، لتبيان نتائج الاختبار والتقنية معاً، وإنْ يبتعد عن هذه التقنية لاحقاً، ربما لعدم اقتناعه بها، أو ربما لعدم إشباعها رغباته الجمالية في بلوغ ما يطمح إليه؛ يُقدِّم محمد خان أفلاماً تحمل خصوصية "الواقعية الجديدة"، أي تلك التي تكشف أهوال الواقع وحالات ناسه ومآسيهم، بلغة سينمائية راقية؛ وتحمل أيضاً براعة التقاط النبض الشعبي الإنساني الفردي، محوّلاً إياه إلى متتاليات سينمائية، تتماسك في سردها بعض الوقائع، وفي كشفها بعض المبطّن، وفي اعتمادها الصورة لغة أساسية للقول والبوح.

التجربة التقنية الوحيدة، الخاصة بـ"ديجيتال"، تتابع وقائع العيش اليومي لـ"حرامي" ("كليفتي" كلمة مشتقّة من اللاتينية، تعني الحرامي)، يُدبِّر أمور حياته بالنصب والاحتيال، ويريد الزواج ممّن يحب، لكن ظروف الحياة صعبة وقاسية. والصعوبة والقسوة هاتان يشاهدهما متابعو أفلام كثيرة لخان، إذ يذهب، غالباً، إلى وقائع العيش اليومي على التخوم الملتهبة للبؤس والخراب والفوضى. وهذا، إذْ يجمع نتاجاته السينمائية كلّها تقريباً، يتوضّح في كيفية مقاربته البيئات الإنسانية والشعبية الضيّقة، أو في سرد حكايات تُضيء العوالم المختلفة للقاهرة، باستثناء "قبل زحمة الصيف" (2015)، آخر فيلمٍ له، الذي ينتقل به مع شخصياته القليلة جداً، إلى شاطئ البحر في الإسكندرية، قبل بداية موسم الصيف، وإنْ تبقى القاهرة في خلفية لقطات وحالات عديدة، بشكل مبطّن.

صعوبة الاختزال

صعوبة وقسوة. لن أضع أفلام محمد خان في خانة كهذه، وإنْ يظهر الوصفان في أحوال شخصيات عديدة، في أفلام كثيرة له. "أحلام هند وكاميليا" (1988)، مثلٌ على ذلك، لن يمنع تأمّلات نقدية بأفلام أخرى، سابقة ولاحقة عليه. لن أُدخل "خرج ولم يعد" (1984)، في الخانة نفسها، لأن لديّ ميلاً إلى اعتباره خارج التصنيف النقدي بـ"الواقعية الجديدة"، لأنه يحاول أن يبني، على حكاية راغبٍ في اكتشاف الريف، عمارة سينمائية تبوح بتناقض العلاقة الفردية بين مدينة وقرية، أي بين مناخين جغرافيين ونفسيين وإنسانيين مختلفين تماماً، أحدهما عن الآخر. أما "يوم حار جداً" (1995)، فيتوغّل في البنيان النفسي ـ الروحي لشخصيات تتصارع، وإنْ تكن صراعاتها مختلفة أو متناقضة، لكنها ـ في النهاية ـ تصنع مشهدية سينمائية بديعة جداً، عن معنى العلاقة والخواء الروحي، وعن معنى الفراغ والقسوة الذاتية، وعن معنى الآخر والارتباط والنظرة.

يستحيل اختزال النتاج السينمائي كلّه لمحمد خان. استعادة مناخات خاصّة باشتغالاته وفضاءاته الدرامية والجمالية والتأملية، محتاجة إلى مساحة أكبر من القراءة والتعليق والنقاش. أفلامه أكبر من أن تُختصر في مقالة. الأسئلة المطروحة في أفلامه تلك تتطلّب ما هو أكبر وأهم من تحية يُراد لها بلوغ لحظة بوح ذاتيّ. كشف المستور فيها، أو بعضه على الأقلّ، مدخلٌ إلى قراءة سوسيولوجية ونفسية للقاهرة، بتناقضاتها وأهوائها ومجالسها وناسها وحراكها وحيويتها وإحباطاتها وفوضاها وجمالياتها. السيرة السينمائية للرئيس أنور السادات (1918 ـ 1981)، اختبارٌ من نوع آخر، يأخذه إلى مقاربة مسار ذاتي لشخصية عامة، وإن تكن محكومة بإطار عائلي، في "أيام السادات" (2001) ـ المستند إلى كتابي "البحث عن الذات" لأنور السادات و"سيدة من مصر" لجيهان السادات ـ إلّا أنها تنجح، ولو قليلاً، باتجاه فعل سينمائيّ يشتغل في الصورة والمونتاج وبناء الشخصية وسرد الحكاية.

أصدقاء مهنة وحياة

يذكر بعض النقد والتأريخ السينمائيان، أن محمد خان يُكوِّن، مع السيناريست بشير الديك والمُصوِّر السينمائي سعيد شيمي والمونتير نادية شكري، بالإضافة إلى المخرجين عاطف الطيب وخيري بشارة وداود عبد السيد، جماعة سينمائية يُطلق عليها اسم "جماعة أفلام الصُحبة". فبالإضافة إلى رابطة الصداقة، هناك اهتمامات مشتركة، أقلّه في العناوين العامة، والهموم الفنية والثقافية أيضاً.
الهدف من هذا؟ "إنتاج أفلام ذات مستوى جيد". لكن الفيلم الوحيد الذي تُنتجه الجماعة، هو "الحريف" (1983) لخان نفسه.
إلى ذلك، يرتبط محمد خان بأصدقاء، يعمل معهم بشكل شبه كامل: المونتيرة نادية شكري (غالبية أفلامه)، ومديرا التصوير السينمائي سعيد شيمي (8 أفلام) وطارق التلمساني (3 أفلام)، والموسيقار كمال بكير (7 أفلام)، وكاتبو السيناريو بشير الديك (6 أفلام) وعاصم توفيق (4 أفلام) ورؤوف توفيق (فيلمان اثنان)، والممثل أحمد زكي (6 أفلام).

المساهمون