معايير دولية

معايير دولية

18 يناير 2016
لوحة للفنان الأميركي جون نيوكومب (Getty)
+ الخط -
لن يعدم الكاريكاتير الأخير لأسبوعية شارلي إيبدو ردودًا وتعليقات سلبية من كل نوع، لعلها تعدّت الآلاف الآن. ولن يؤثر ذلك غالبًا، إلا في اتجاه واحد؛ أرقام الـTraffic على الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي، وأرقام تشير إلى عدد النسخ المباعة، وفي المحصّلة ستدور دورة "المصالح" دورتها بعنجهيتها المعتادة، ليتلقّفها يمين متطرّف، يعيش أفضل أيامه على ما يبدو، ولا تنقصه "أخبار" من بلاد العرب، ليؤكد ما يشاء عن "صورتنا" التي لا أحد يحسدنا عليها. 

"صورتنا" ظهرت مؤخرًا في تلك الصور "الساخرة" من المحاصرين جوعًا في مضايا مثلاً، أو إخلاء سبيل ميشيل سماحة مثلًا آخر، أو الحكم على الشاعر والفنان الفلسطيني أشرف فياض بالإعدام مثلًا آخر أيضًا. هذا غيض من فيض، يستطيع الإعلام "الغربي" استعماله ليبيّن إلى أي حدّ البون شاسع بين الشرق والغرب من ناحية الأخلاق وحقوق الإنسان والديمقراطية وحرية التعبير والعدالة.

وثمة كثر يوافقون على أن هذا الـ"غيض من فيض"، لا يحسدنا أحد عليه، وأن المعايير الغربية، التي نفتقد إليها ببراعة على ما يبدو، ليست معايير غربية حقًا، فليست الرغبة في "العدالة" مثلًا، اختراع حصري للغرب.

ويبقى أن تلك المعايير تنزل وتطلع درجات وفقًا لشيء واحد ثابت: المصالح الغربية. المعايير الدولية وقد تجلّت فعلًا قدرتها على إثارة حسد الحرباء بذاتها، في الربيع العربي.

ففضلًا عن "الاجتهاد اللفظي"، الذي أتحفنا به الساسة يوميًا، خلال السنوات الخمس الماضية، كان ثمة ذلك الخبث واللؤم في النظرة لا إلى "صورتنا" التي شكّلها الغرب أيضًا في "أفكاره" عن الإسلام، وما يجرّه ذلك من حديث عن تلاؤم أم عدم تلاؤم الدين مع الديمقراطية، بل أيضًا تلك النظرة إلى محاولة الناس، العمل وفقًا لمعايير ليست غربية، كما يدّعي الغرب.

من تلك المعايير: الوقوف مع الضحية ورواية قصّتها. وللجملة الأخيرة في أعراف المعايير الدولية مصطلح شهير: التوثيق.

يُفترض بالتوثيق أن يكون ذا صدقية. صدقية تشتدّ وفقًا لمعايير دقيقة، تمنع التحيّز والإخلال والتضليل. وقد فعلت المحامية رزان زيتونة، ما بوسعها لتلتزم بتلك المعايير أثناء عملها في توثيق عدد الضحايا وطرق موتهم. وكانت رزان بين الفينة والأخرى، تكتب مقالًا يسلّط الضوء على ما يجري في دمشق وما حولها من بلدات في الغوطة التي تزنّرها، منذ الأيام الأولى للثورة السورية. وكانت تبعد المقال، بقدر ما تستطيع، عن قلبها.

اقرأ أيضًا : سورية انتهت؟

من بين كلّ مقالاتها، استطاع مقالٌ واحدٌ الهرب من رقابتها الصارمة في "الحيادية" والتوثيق الدقيق في نقل ما يجري، متجهًا صوب العاطفية. عنوان المقال "كولد ماونتن". وفيه تتناول رزان قصّة مقتل شاب سوري اسمه حسن الأزهري، لقي حتفه تحت التعذيب، فتسرد أيضًا، شعورها عند العمل في "التوثيق" وفقًا لـ معايير دقيقة: "وماذا بعد توثيق الاسم بعد الآخر، وتوجيه النداء بعد الآخر؟ أعمل كحفّار القبور الذي اعتاد دفن موتاه وهو يتثاءب، وعرض نعواتهم في متحف المنظمات الدولية. لماذا يحرص المجتمع الدولي على توثيق ما يشهد من جرائم تحت أنظاره؟ لماذا يهتم المجتمع الدولي بهذا التنظيم وتلك الدقّة في رصد أنَّات الضحايا وتحنيطها في أرقام وشهادات وجداول؟". ولا تبدو رزان صاحبة أوهام في مقالها الذي تنهيه واصفة حسن الأزهري بـ:"شاب سوري صغير مثله في الرابعة والعشرين من عمره، أمامه العمر كله ليتساءل ويكتشف. هكذا تقول مدونات حقوق الإنسان ومبادئ المجتمع الدولي. العمر كله، وليس اختصاره بخبرة زنزانة وسياط جلاد وعالم يحدّق بألمنا بوقاحة". ففي فقرة واحدة، وضعت رزان الجلادين معًا؛ الجلاد الخشن والجلاد الناعم.

كان ذلك في الشهر السادس من عام 2012. ومن وقتها إلى اليوم، تغيّرت أمور شتّى، وفي بعض الأحيان بطريقة لا عودة عنها، في سورية، التي تبدو في نشرات الأخبار أدنى إلى يوم القيامة. ومن بين الأمور التي تغيّرت تلك "المعايير الدولية"، التي كانت تقدّم نفسها باعتبارها قيمًا أخلاقية، وباتت اليوم تقّدم نفسها باعتبارها "مصالح" دول.

كل ما في الأفق، يدعو إلى اليأس بالطبع، خاصّة تلك الموجة التي لا تبرير لعنجهيتها في السخرية من الضحية، وإن بدت الجملة الأخيرة، تشير لأسبوعية شارلي إيبدو وكاريكاتورها الأخير، فهذا غير دقيق، إنها تشير أيضًا لتلك الصور المقيتة لأنصار حزب الله، الذين بلغوا دركًا لم يسبقهم إليه أحد.

اقرأ أيضًا : تدجين ذاتي

دلالات

المساهمون