برهان غليون: الغرب لم يقدم دعمًا للربيع العربي

برهان غليون: الغرب لم يقدم دعمًا للربيع العربي

18 يناير 2016
برهان غليون (العربي الجديد)
+ الخط -
يعد الدكتور برهان غليون واحدًا من أهم المثقففين العرب. دأب على الدفاع عن قيم الحرية والديمقراطية من خلال كتبه خصوصًا "بيان من أجل الديمقراطية".  كما عمل أستاذًا  لعلم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون، وترأس المجلس الوطني السوري السابق.


* ما الذي تغيَّر منذ صدور كتابك اللافت "بيان من أجل الديمقراطية" إلى اليوم؟ ألا تزال الديمقراطية غاية؟ وهل ستحقق، يوما في عالمنا العربي؟ 

يتبين مما يجري أن الديمقراطية مهمة بالنسبة للعرب أكثرَ من أي قضية أخرى، ومؤشّرات الرأي التي نشرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات تبين أن القضية المركزية عند الشعب العربي هي قضية الديمقراطية. وهذا شيء منطقي، وهو ما تحدثت عنه في كتابي سالف الذكر "بيان من أجل الديمقراطية"، أي أن قضية السلطة وتنظيم السلطة وإدارة شؤون البلاد قضية مركزية. فحول هذه القضية تدور أعنف وأكبر معارك المجتمعات العربية، وآخرها معركة الربيع العربي وثوراته العديدة التي تحولت إلى حروب دموية. فوراء قضية الديمقراطية تكمن قضايا كبيرة وعديدة أيضًا أهمها وجود الشعب كفاعل سياسي ودوره في تقرير الخيارات السياسية الداخلية والخارجية، وتأسيس المواطنة كحالة قانونية وسياسية وأخلاقية معًا، وبناء الدولة وحكم القانون، والخروج من حالة الطوارئ والقوانين الاستثنائية التي عطّلت التفكير والنقاش والعمل الوطني والتعاون والتضامن وخلق علاقات طبيعية بين الأفراد المواطنين من جهة، والنخب السائدة والشعوب من جهة ثانية، وفي ما وراء كل ذلك، إنقاذ مشروع الحداثة العربية والتحاق مجتمعاتنا بركب الحضارة الصناعية والتقنية والعلمية، أي إنقاذ مشروع التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للعقود المقبلة.

اقرأ أيضًا : رضوان السيد، نعيش مرحلة تفكك الإسلام السني

سياسة العزل والقمع والتهميش التي عانى منها الشعب في الدول العربية هي المولّد الرئيسي للمشاكل والكوارث التي نعيشها اليوم. ورفض تأهيل الشعب والعمل بكل الوسائل لتحييده وإبقائه على الهامش من دون دور ولا وزن ولا حقوق ولا احترام، هو المحرك الأكبر لروح الثورة التي نعيشها اليوم، وأيضًا للعديد من الانحرافات التي ظهرت على هامشها، بما فيها انتشار المنظمات المتطرفة والأساليب الإرهابية والوحشية التي طوّرتها السلطات الحاكمة المستبدّة من أجل تبرير نفسها وتشويه صورة الثورة والشعوب الحاملة لها. لذلك ليس من المبالغة القول إن "بيان من أجل الديمقراطية"، لم يكن أكثر راهنية في أي فترة مما هو في وقتنا الراهن. ولا يزال كفاح الشعب من أجل التحرر من الهامشية والإهمال والاحتقار وانتزاع كرامته وحقوقه وحرياته هو محور الصراعات الدموية داخل البلدان العربية وعلى مستوى المنطقة والعلاقات الإقليمية والعلاقات الدولية. وقد تجلّى في هذا الصراع التحالف العميق الذي يربط مصالح النخب الحاكمة في تأبيد استبدادها، بل احتلالها للمجتمع والبلاد، مع مصالح حماتها الإقليميين والدوليين. حتى ليمكن القول إن هناك مؤامرة متعددة الأطراف، محلية إقليمية دولية، لإبقاء الشعوب العربية خارج دائرة الفعل والمدنية والحضارة.

* هل نبتعد أم نقترب من تطبيق الديمقراطية؟

نحن نشهد اليوم حروب إجهاض ثورات الشعوب وبالتالي قطع الطريق على الانتقال الديمقراطي. ومن هذه الزاوية نحن نبتعد عن تطبيق الديمقراطية أو وضع أسس النظم الديمقراطية. لكن في الوقت نفسه، شكّلت الثورة أكبر مطرقة حطمت النظم القهرية التي ترسخت جذورها في بلادنا العربية خلال أكثر من نصف قرن، ونزعت عنها أي صدقية وأظهرت عمالتها للدول الأجنبية وعداءها المنقطع النظير للشعب. وتمثل هذه الثورات تجربة تاريخية فريدة لدخول الشعب بصورة صاعقة لا يمكن الالتفاف عليها أو إخفاء معانيها في ساحة العمل السياسي والعام. خلقت الثورة هوية للشعوب وأجندة ديمقراطية لن تزول وتختفي وخبرة عملية عظيمة في النضال ضدّ مضطهديها الداخليين والخارجيين. ولذلك أقول بمقدار ما أبعدتنا الثورة المضادة عن الديمقراطية كتطبيق علمي، قربتنا من الفكرة الديمقراطية بوصفها العهد الوطني الوحيد القادر على الرد على تطلعات الشعب وتوحيد صفوفه. منذ الآن سيكون الصراع من أجل تحويل الفكرة إلى واقع هو محور نشاط العديد من النخب الثقافية والسياسية العربية وسوف تتحول الديمقراطية كما لم يحصل في أي فترة سابقة إلى قضية رئيسية، في حياة وإعادة بناء المجتمعات العربية تتقدم على كل القضايا الأخرى القومية والتنموية، لأنها أثبتت أنها المدخل الإجباري لتحقيق هذه المهام ذاتها، وأننا لن ننجح في إيجاد أي حل للمسائل الكبرى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومنها مشكلة الهوية ما لم ننجح في وضع أسس التحول الديمقراطي في مجتمعاتنا. الثورات العربية بيّنت أننا دخلنا عهد الديمقراطية لكن حتى نصل إلى بداية تطبيقها لا يزال أمامنا عقبات كبيرة. وأعتقد أن قضية التحول السياسي الديمقراطي، في العالم العربي أعقد من أي منطقة أخرى، لأنها مرتبطة ليس فقط بمصالح داخلية وإنما بمصالح إقليمية ودولية، ولن نستطيع التقدم فيها إلا بمقدار ما ننجح أيضًا، بموازاة العمل من أجلها، على حل المشاكل العالقة على مستوى الإقليم أيضا وعلى مستوى مكانة المنطقة في الإقليم، وفي النظام العالمي.

اقرأ أيضًا : أبو يعرب المرزوقي، الدين والفلسفة يسعيان للغاية ذاتها

* من هي القوى الاجتماعية المؤهلة لتحقيق هذه الديمقراطية؟ هل يتعلق الأمر بالبورجوازية المتوسطة التي تعرضت للتصفية أم بالمثقفين أيضًا، أو ما يسمى بالنُّخَب؟

وجهت الثورات المضادة من دون شك ضربة عنيفة للطبقة الوسطى وللنخب الثقافية والمدنية التي حملت لواء الثورة الشعبية والديمقراطية. لكن إعادة تأهيل هذه الطبقة والنخب المرتبطة بها لن تكون مستحيلة، وهي مرتبطة بالتأكيد بتطور الأوضاع الإقليمية والدولية. وحتى الآن ليس هناك ما يوحي بالاتجاه الذي سوف يستقر عليه وضع المنطقة العربية، المرتبط بتصدير النفط ووجود إسرائيل والموقع الاستراتيجي الدقيق، في النظام الدولي. لكن على جميع الأحوال لن تستقر الأوضاع في البلدان العربية ما لم يتم التوصل إلى صيغة من الاعتراف بحقوق الشعوب ودورها، وبالتالي بالحكم الديمقراطي، ولو كان ذلك على سبيل التدرج. ويرتبط هذا أيضًا بالطريقة التي ستسحب النخب العربية المثقفة والاقتصادية والسياسية والمدنية فيها دروس الثورات الراهنة وتستفيد من خبرتها التاريخية. وعندما أتحدث عن ذلك، أفكر في القطيعة التي ظهرت قبل الثورة لكن خلالها بشكل أكبر بين النخب الاجتماعية والجمهور الشعبي الواسع والتي شكلت عقبة كأداء أمام تقدم الثورة وانتصارها. وكنت قد تحدثت أكثر من مرة في كتبي ومقالاتي السابقة عن أهمية النخب وعن ما تعيشه من قطيعة مع شعوبها. وحتى تلك الفئات من النخبة المثقفة التي تصدرت مطالب الديمقراطية في العقود الماضية، ومعظمها مكونة من الفنانين والكتاب والممثلين، الذين تشكل الحرية، بالنسبة إليهم، شرطًا لتحقيق ذاتهم وإنتاجهم وعملهم، تراجعت بعد الثورة عن مواقفها وبدت أقرب إلى الخوف من انتصار الشعب منه إلى بقاء النظام.

اقرأ أيضًا : هشام جعيط، الحركات الإسلامية الراهنة تنظيمات إيديولوجية

لقد أظهرت ثورات الربيع العربي أن فقدان النخب العربية لعلاقات تفاعلية قوية وعميقة مع الشعب، وانعدام ثقتها به، وشكّها في قدرته على الارتقاء إلى مستوى القيم الإنسانية، كل هذا قد عطّل إرادة التغيير لديها عندما جاءت اللحظة الحاسمة. ولذلك أعتقد أن من أهم المشاكل التي يتوجب علينا حلّها في السنوات المقبلة، هي مشكلة قطيعة هذه النخب، سواء كانت سياسية أو ثقافية أو اقتصادية، من رجال أعمال أو حتى عسكرية، عن الشعب ومعالجة خوفها منه ويأسها من تطويره وتقدمه. نحن اليوم أمام مفارقة خطيرة وكبيرة معًا: نخبة تتحدث بالديمقراطية لكنها تمارس العكس، وشعب ليس لديه وعيٌ كبير بالديمقراطية، أو تربية ديمقراطية، لكنه يتقدم ويقدم تضحيات هائلة من أجل التحول والتغيير والمشاركة والفعل. النخبة تتكلم بالديمقراطية، ولكن تعمل ضدها، والشعب ينكر الديمقراطية أو يكاد ونضالاته تصب في تقريب أجلها. لا يعرف معظم الجمهور العربي، الذي حُرم من أي ثقافة وتربية ديمقراطية ومدنية ومُنع من التعبير والنقاش والتواصل خلال عقود طويلة، ما الذي تعنيه الديمقراطية بالضبط، وقسم منه يمكن أن ينظر إليها بشك ويرى فيها نقيضًا لعقائده الدينية، لكنه مستعد أن يقوم بأي عمل ليفرض احترامه ومشاركته ووجوده على النخبة التي تتجاهله والنظام. ولا يعبر هذا إلا عن تقصير النخب نفسها وليس عن عطالة الشعب كما يدعي كثيرون.على هذه النخب أن تبين له بالقول والعمل معًا، أن طريق الوصول إلى نظام يحفظ الكرامة ويحقق المساواة ويكفل الحرية والعدالة وحكم القانون للجميع ليس مستحيلًا، وأن الديمقراطية بالتالي ممكنة وناجعة.

* حينما نتحدث عن النُّخَب، فنحن، في غالب الأحيان، نتحدث عن النخب العلمانية، فكيف يمكن لكم، باعتباركم أستاذًا في علم الاجتماع، أن تفسروا أن هذه النخب تفضل الديكتاتور والانقلابي على الثورات والانتفاضات الشعبية المطالبة بالديمقراطية؟

هذا يُرجعنا إلى قول ماركس من أن الأيديولوجيا تعني الوعي التزييفي أكثر مما تعني الوعي الصحيح للواقع. للأسف أصبحت العلمانية إيديولوجية خاصة عند المثقفين العرب وليست دليل عمل سياسي، وتحولت بذلك أيضًا إلى دين بديل للدين الذي يعتنقه أكثر أفراد المجتمع، ومرتكز تكوين هوية خاصة لطائفة، هي طائفة العلمانيين، وهي طائفة توحدها إيديولوجية واحدة ومصالح واحدة، تتقاطع أكثر مع مصالح النظام الديكتاتوري، أي إنها تعتقد أن هذا النظام يحميها من الشعب، الذي تنظر إليه بدونية. وكما أنها تنظر نظرة ماهوية أو جوهرانية إلى العلمانية، فإنها تنظر نظرة مَاهَوية إلى الإسلام، وترى في الشعب المسلم كتلة صماء لا يمكن أن يتغير أو يتحول وسوف يكون دائمًا ضدها، وضد طموحاتها وضد تطلعاتها وضد حريتها التي لا ترى فيها إلا ما يراعي مصالحها وحساسياتها الخاصة.

في مقال سابق، قلت إن من الضروري أن نفرق بين العلمانية والعداء للدين. وليس لأحدهما أي علاقة بالآخر. وللأسف سودت النخب العربية صورة تبدو فيها العلمانية متطابقة مع العداء للدين، فعزلتها وشوهتها وحولتها، كما قلت، إلى دين خاص وهوية خاصة بنخبة، وحرمتها من أن تكون دليلًا لبناء دولة مدنية تعترف بحق التعبير وحرية الاعتقاد وتحترم عقائد الجميع معًا. فمطابقة العلمانية مع العداء للدين أو إنكار قيمته ووجوده وحق المؤمنين في الاعتقاد بما يقول، يعني تحويلها إلى دعوة إلحادية ببساطة ودفع المؤمنين جميعًا إلى الوقوف ضدها. والحال، ليس هناك أي علاقة بين العلمانية بالمعنى الأصيل والأصلي والعداء للدين. العداء الوحيد فيها هو لتسليم رجال الدين السلطة السياسية، لأن مثل هذا الوضع يحرم الأفراد، حتى المنتمين إلى الدين نفسه، من حرياتهم، ويفرض عليهم وصاية رجال الدين في كل شؤون الحياة العامة، المدنية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، ويعطل بذلك دور جميع النخب الأخرى ويرهن المجتمع لمهمة واحدة هي ما يطلبه رجال الدين منهم. بالعكس إن جوهر العلمانية هو ضمان حرية اعتقادات الناس.

ينبع هذا الانحراف في فهم العلمانية من العداء للشعب الذي يجد تفسيره أيضًا في احتقاره وانعدام الثقة بإمكانية تطوره وتقدمه وتحرره من تقاليده وخرافاته، أي في الواقع من رفض النخب الاجتماعية العمل مع الشعب ومساعدته على التقدم، وتركه يغرق في الهامشية واليأس بديلًا عن ذلك. وهذا الاحتقار النابع من الشعور بالتفوق والتميز عند النخب هو الذي يشجع هذه النخب أو أجزاء واسعة منها، في المعارك الحاسمة، على الاصطفاف وراء النظم الديكتاتورية بل إعادة إنتاجها. ما كان لمثل هذا التوجه والموقف من قبل النخبة إلا أن يعمق مشاعر القطيعة مع الشعب، واستخدام العلمانية كوسيلة لتأكيد الانتماء لعالم الحداثة الراقي في مواجهة كم مهمل مدان سلفًا بعدم القدرة على الارتفاع إلى مستوى القيم الإنسانية، وفك ارتباطه بالعادات والقيم التقليدية الدينية.

وهكذا بمقدار ما جعلت النخبة من العلمانية هوية لها تواجه بها المجتمع أو أكثريته المهمشة، دفعت الجمهور المهمش والمحروم من الإنسانية والحياة إلى أن يجعل من الإسلامية، أي من الإسلام المحول هو أيضًا إلى جوهر ثابت وإيديولوجية سياسية، هوية خاصة بالشعب. ونحن نشهد منذ عقود كيف تتحول العلمانية إلى عقيدة معادية للشعب ومبررة لتهميشه، وتحول الإسلام الدين الجامع العالمي، إلى عقيدة سياسية شعبية أو شعبوية معادية للنخبة وللغرب الذي يشكل مرجعيتها. تزداد النخب بعدًا عن الشعب واستهتارًا بحقوقه وتستخدم رفضه للعلمانية مبررًا لتهميشه، ويعود الشعب المهمش بشكل أكبر إلى الدين، باعتباره هوية دفاعية له، ويحوله إلى إيديولوجيا عداء للنخبة وللعلمانية معًا.

لقد وصلنا إلى مجتمعات متصدعة، تتفاقم فيها القطيعة بين النخبة والشعب، فتتمسك فئات كثيرة بمرجعية الإسلام لتميز نفسها عن النخب "الخائنة"، وتتمسك فئات متزايدة من النخبة بالعلمانية كمرجعية خاصة بها تميزها عن بقية المجتمع وتفصلها عنه. وفي هذه المناسبة تضيع قيم العلمانية التحررية وقيم الدين التضامنية والإنسانية معًا. ومما لا شك فيه أنه كان لهذه القطيعة الدور الأكبر في إجهاض الربيع العربي على المستوى الداخلي. وسيكون لاستمرارها دور كبير أيضًا في إجهاض مسيرتنا نحو الديمقراطية. فما دامت القطيعة بين الشعب والنخبة مستمرة، ستستمر القطيعة بين العلمانية التي تتماهى معها بشكل متزايد النخب الحديثة، والإسلامية التي تنزع إلى أن تمثل هوية الجمهور المبعد والمهمش بشكل متعاظم أيضًا، ولن نحظى بأي حل للتصدع القائم ولن نتقدم.

* أنت مقيم في الغرب "الديمقراطي والمدافع عن حقوق الشعوب والإنسان" منذ عقود، فهل فوجئت بموقفه السلبي من الشعب السوري وثورته ضد الاستبداد والديكتاتورية؟

لم أفاجأ بموقف الغرب من الثورة السورية، ولو أن سلوكه بدا لي، أحيانًا،"كلبيًّا" وخائنًا لكل القيم التي ينادي بها أكثر مما كنتُ أتوقعه. فهو لم يُطبّق، يومًا، مبادئه التي يقوم عليها في البلدان الأخرى. المصالح هي التي تحكم علاقات الدول كلها مع بعضها، وتحكم علاقات الغرب مع المجتمعات ومع المنطقة العربية. وهذه المصالح، حتى الآن، كانت مرتبطة بالحفاظ على النظم والنُّخَب العسكرية الحاكمة، لأن للغرب، أيضًا، التصور نفسه الذي تملكه النخب المحلية الحاكمة للمسلمين وللشعوب العربية والإسلامية، وهو ينبع في الحالتين من إرادة السيطرة والهيمنة عليها، ولا يعكس حقائق موضوعية.

يعتقد الغربيون عمومًا أن المسلمين غير قادرين على الارتقاء إلى مستوى قيم الحرية والعدالة والكرامة الكونية، وأن العنف والاستبداد والهمجية تسري في عروقهم، وأنه لو قيض للشعوب أن تحكم أو تقرر مصيرها، بدل النخب القريبة من الغرب المفروضة عليها، فلن تكون صديقة للغرب، ولا راعية لمصالحه، وإنما معادية له. كل هذا يجعل الغرب لا يميل، كما أنه لم يكن ميالًا خلال النصف الأخير من القرن الماضي، لتشجيع التحول الديمقراطي في العالم العربي.
إن النظام الإقليمي في المنطقة العربية، الذي أسميه النظام شبه الاستعماري، لأنه لا يزال يقوم على تقاسم مناطق النفوذ وحمايتها بدعم النظم الاستبدادية أو بالتدخلات العسكرية المباشرة، أي بالعنف، في جميع الأحوال، والذي يفسر استمراره وجود مصالح كبيرة إستراتيجية في المشرق العربي، هو المنتج الرئيسي للمفاهيم والتصورات السلبية والخاطئة المحيطة بالمجتمعات الشرقية. وهو الذي يدفع الغرب، بشكل دائم، إلى دعم النظم الديكتاتورية المحلية وتعميق قطيعتها مع الشعوب، وتزويدها بالأفكار والوسائل اللازمة لإبقاء الشعوب على الهامش واستبعادها وقهرها. ولذلك حين اندلعت الثورات العربية لم يقف الغرب إلى صف الثورة. لم يستطع أن يقول إنه ضد الثورة، لأن الأمر كان سيشكل فضيحة، من وجهة نظر القِيَم التي يعلن انتماءه إليها، لكنه أظهر بشكل واضح أن الثورة لا تعني له الشيء الكثير، وهو ما يعني أنه لن يشجع عليها ولن يساعد على انتصارها. حرّك شفافه ببعض كلمات الدعم، لكن، للحقيقة، لم يقدم أي دعم له معنى، لثورات الربيع العربي. صدرت من قادته تصريحات ومواقف، كما أنه تميز في موقفه بشكل واضح عن روسيا أو إيران والنظم الديكتاتورية الأخرى لكنه، على العموم، لم يظهر أي حرص ولا أي شعور بأن له مصلحة أن تتحول المنطقة العربية إلى منطقة ديمقراطية. لا مصالحه تشجعه على اتخاذ مثل هذا الموقف، ولا الصورة التي يختزنها في ذاكرته وذهنه عن العرب تشجعه على هذا. وهي صورة سلبية جدا ومجانبة لأي حقيقة موضوعية كما ذكرت.

اقرأ أيضًا : يوسف الصديق، لم أقل كل ما لدي

* وهو ما يفسر، أيضًا، موقفه المتردد والمخزي من معاناة اللاجئين واستقبالهم.

بالضبط. ومن الواضح أن بعض الغربيين يستخدمون اليوم قضية اللاجئين، التي استخدمها الإيرانيون والأسد والروس كأداة للضغط على الغرب، من أجل تبرير عودتهم عن سياسة تأييد الثورة والمعارضة السورية والدعوة إلى إعادة تأهيل الأسد. وهذا هو الأمر أيضًا بالنسبة لمسألة التطرف والإرهاب، الذي كان تخاذل الغرب عن القيام بواجبه لحماية المدنيين ووقف الجريمة والقتل المنظم من قبل نظام الأسد، السبب الرئيسي في ظهور تنظيماته وانتشارها. وهذه المسألة لا تزال تستخدم اليوم أيضًا من قبل المجتمع الدولي لتبرير التخلي عن حقوق الشعب السوري وخذلانه، وإعادة المراهنة على نظام الأسد الذي كان وراء صناعة الإرهاب قبل أن يعلن الوقوف ضده. وهذه ليست المفارقة الوحيدة للسياسات الغربية والأوروبية في المنطقة العربية.

* هل تتفهم إحساس الشعب السوري بالخذلان من الموقف الرسمي العربي، في الوقت الذي ترسل فيه دول دعمًا مباشرًا لنظام الأسد؟

التخاذل كان كبيرًا، وبدأ منذ بداية الثورة، من قبل الدول العربية. فقد بقيت الجامعة العربية لفترة طويلة مشلولة تمامًا، وتردد الكثير من الدول العربية في اتخاذ موقف من أعمال القتل والإبادة الجماعية التي يقوم بها نظام الأسد في الجامعة، ولا يزال بعضها يدعمه علنًا. وهو ما يمكن فهمه في إطار تضامن الأنظمة التي كانت قائمة منذ خمسين سنة، فالواقع أنها أجزاء من نظام إقليمي واحد لتحييد الشعوب العربية، ضمانًا لمصالح الاستقرار والأمن الدولي والإسرائيلي. الدعم الوحيد الذي تلقاه السوريون كان من قبل بعض الدول العربية المحدودة، في الخليج، الذي أدركت حكوماته أن انتزاع سورية من الحاضنة العربية وإلحاقها بطهران يعني تهديدًا مباشرًا لأمنها الوطني، وأن بلدانهم ستكون المستهدفة مباشرة بعد سورية. الذين يُدعّمون الثورة السورية والشعب السوري يفعلون ذلك بسبب وجود تهديدات لمصالح الأمن الوطني ناجمة عن التدخل الإيراني لصالح النظام السوري وأخذ سورية إلى محور آخر معاد للعالم العربي كليًا. وفي الحقيقة كان هناك تعاطف شعبي عربي كبير مع الثورة السورية لكن لم يكن هناك أي تعاطف رسمي. هناك بالعكس خوف وقلق عند معظم الدول العربية من سقوط الأسد. ولذلك لا يوجد ضغطٌ كبير في هذا الاتجاه.

* الكثير من المتعاطفين مع الثورة السورية، من عرب وغربيين، تأسفوا لعسكرة الثورة، فما هو رأيك؟

كان جميع السوريين من المدافعين عن سلمية الثورة. وكانت سلميتها هي ورقتها القوية، لأنها تعني تفعيل إرادة الملايين من الجماهير التي تتدخل لتقرير مصالحها، وتنزل إلى الشوارع وإلى الساحات، وهذه ورقة لا يمكن أن يستخدمها إلا الشعب، لأنها تتطلب جمهورًا كبيرًا ينزل إلى الشوارع ويقف من خلفها. حين دخل السلاح إلى الواجهة، بدأت هذه الجماهير، شيئًا فشيئًا، تعود إلى البيوت، وصار الرهان الأكبر على مجموعات المقاومة المسلحة. وهذا غيّر المجرى تمامًا. ما من شك أنه كان من مصلحة الثورة أن تبقى سلمية. لكن هل كان تسليح الثورة قرارًا من اختيار أحد من الثوار أو المعارضين؟ إطلاقاً. المسؤول الأول عن عسكرة النزاع كان الأسد نفسه، أي العنف المفرط الذي واجه به الشعب الثائر، وزجّ القوات المسلحة وجيوشا من الشبيحة والمرتزقة العرب والأجانب لقهر الشعب وهزيمته. لم يكن من الممكن في مواجهة حرب الإبادة الجماعية أن تستمر ثورة سلمية. أمام العنف الهائل، والقتل العشوائي والاعتقالات بالجملة وعمليات الهجوم على المنازل والاغتصاب الممنهج والتعذيب حتى الموت لمئات الآلاف من الشبان، كما أظهرته صُوَر "قيصر"، لا يوجد إنسان أو طرف في العالم قادر على تجنيب الشعب أو بعض أبنائه اللجوء إلى السلاح أو على الحيلولة دون انشقاق العسكريين الذين كان يُطلب منهم قتل إخوانهم وأبنائهم.

استخدم الناس السلاح، أولًا، للدفاع عن أنفسهم، بعد أن انهار أي احترام للحياة الإنسانية وللقانون، ثم في ما بعد، لرد الهجمات الوحشية على قراهم وبلداتهم ومدنهم. الذي اختار أن تكون الثورة مسلحة هو النظام السوري الذي وضع الشعب أمام خيار واحد: "إما يكون قاتلا وإما مقتولا" وألغى كل أفق للسياسة.

* ثمة من يرى أن المأساة السورية أفظع من المأساة الفلسطينية، بسبب حجم الخراب والتشريد والمآسي المستمرة.

أنا أميل للقول بأن المأساة السورية هي امتدادٌ للمأساة الفلسطينية. طبعًا الكارثة الإنسانية التي ارتبطت بها أقوى بكثير. لكن هذه المأساة في جزء منها كانت لحماية إسرائيل. فالكوارث التي يعيشها الشعب السوري، اليوم، غير منفصلة عن كارثة فلسطين، وهي جزءٌ من الحرب الحقيقية التي فُرضت على المنطقة برمتها من أجل تحصينها ضد الثورات الشعبية والتحولات الديمقراطية وتأمين وجود إسرائيل والنظم الديكتاتورية الحامية لها. والواقع أصبحت سياسة إسرائيل هي النموذج الذي تطبقه النظم الديكتاتورية على شعوبها. وأنت ترى أن النظم الديكتاتورية العربية تتهم، كإسرائيل، كل من يعارضها بأنه مخرب وإرهابي، وتنكر وجود الشعوب تمامًا كما تفعل إسرائيل مع الفلسطينيين، ولا ترى فيها سوى خصم يستحق الإهمال أو مصدر فوضى واضطرابات ومصائب، ولا تعترف أمامها بأي معيار للعدالة أو حكم القانون. ليس هناك سوى سياسة الردع والقهر والقتل للإخضاع. وبمقدار ما تحتقر الشعب ولا تؤمن بأنه أهل للقيام بأي عمل إيجابي، تنظر إلى أي حركة احتجاج أو معارضة على أنها مؤامرة خارجية. تشترك النظم الديكتاتورية العربية مع إسرائيل في الكذب والدس وقلب الحقائق، وفي سياسة فرض الأمر الواقع بالقوة وفي استخدام أساليب الإهانة والإذلال للشعب، ونفي وجوده كشعب بالمعنى السياسي، والتعامل معه كبؤر تمرد وإرهاب وتطرف وعنف، وكمجموعة من الطوائف والعشائر والعصبيات المتنافرة والمتعادية، أي باختصار في إنكار كامل لوجود شعب وتجريده من حرياته، من أجل تبرير اغتصاب أرضه وحقوقه. وهذا ما يفعله النظام السوري، بشكل أوسع.

* كيف ترى الحل في سورية؟ هل يمكن توقع حل "سعيد" وقريب للمأساة السورية؟

الحل السعيد صعب. أعتقد أن النظام السوري وصل لنهايته. استنفد قوته، وأيضًا حزب الله وإيران استنفدا قوتهما في سورية. بمعنى أن القوة التي قاتلت الشعب السوري خلال خمس سنوات، أنهكت ووصلت لطريق مسدود، وما عادت تستطيع أن تقوم بأكثر مما فعلت. ودخل الروس، اليوم، كقوة كبرى، لقهر الشعب السوري وفرض الاستسلام عليه، كما يصرح بذلك، علانية، وزير الخارجية الروسي لافروف، الذي يريد فرض بشار الأسد على الشعب السوري من جديد كرئيس شرعي، ويدعو إلى تفاهم المعارضة معه وتشكيل حكومة وحدة وطنية تحت قيادته. أعتقد أن روسيا تمثل آخر حاجز على السوريين أن يَعبُرُوه حتى يحققوا حريتهم.

سيكون أمام الشعب السوري طريق طويل يعبرونه مليء بالمطبات والمشاكل والمصاعب والكوارث الإضافية، حتى نصل إلى السلام والاستقرار ونخرج من النفق المظلم. لكن من أجل أن ننهي الحرب ونحظى بحق السوريين في تقرير مصيرهم، يتوجب علينا أولًا أن نحطم هذا الحاجز الجديد، والمتمثل في القوة الروسية التي تريد أن ترغمنا على التوقيع على صك خضوعنا الأبدي لألعوباتها ومصالحها ومزاج زعمائها. وأعتقد أنه ليس أمام الروس سوى أشهر معدودة حتى يراجعوا حساباتهم، ويدركوا أن عليهم الاختيار بين حرب طويلة ومدمرة، لهم أيضًا، على الطريقة الأفغانية، أو الاعتراف بحق السوريين في أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم وبحرية يستحقونها كما لا يستحقها أي شعب آخر. وهم يدركون منذ الآن حدود نجاحاتهم ويعرفون أن من المستحيل عليهم أن يُخضعوا شعبًا ضحى حتى الآن بأكثر من مليون شهيد وجريح ومختطف من أبنائه من أجل حريته.

المساهمون