عين الفيلسوف

عين الفيلسوف

29 ديسمبر 2015
طيور الرسام السوري ثائر هلال(العربي الجديد)
+ الخط -
أن ترى الأمور على منظور واسع، يحتمل المكان والناس في المكان وكل العناصر التي تؤلّف حيواتهم وتتحكم في حركتهم، يكون ممكنًا حال كان الرائي معماريًا لامعًا. إلا أن توسيع المنظور ليغدو أوسع فأوسع، يعني أن الرائي مختص بالتنظيم المديني. وماذا بعد؟ بعد هذا، تأتي الأفكار القوية المحمولة على التجريد، والأفكار ذات الثقل الفلسفي، لتؤلّف كلّها معًا رأي الفيلسوف غير المنقطع بالضرورة عن واقع عالم اليوم ذي الحضور الكلّي لتقنيات الاتصال والتواصل عن بعد. من العمارة إذن، وميزتها الكبرى في الخلق والابتكار، انبثق فكر واحد من ألمع الفرنسيين اليوم: بول فيريليو، أستاذ العمارة والفيلسوف وصاحب المؤلفات الكثيرة المحفزّة على التفكير وعلى توسيع منظور الإنسان المعاصر.

مناسبة زيارة المعماري الفيلسوف، المعرض المقام حاليًا في باريس في "قصر طوكيو"، تحت عنوان Exit، أي "خروج"، والمستند بشكل رئيس إلى أفكار فيريليو. في البدء يطالعك شريط مصور لفيريليو يمشي على رصيف البحر، ويشرح بكلمات بسيطة وعميقة في آن واحد مآل "أزرقنا البرتقالي" أي كوكب الأرض في ظلّ التغيرات المناخية الكبرى الناجمة في جزء كبير منها عن يد الإنسان. كلام الفيلسوف مرعب نظرًا إلى الأرقام الهائلة التي يقدّمها: مليار إنسان (لاجئون ونازحون) غيّروا من مكان إقامتهم خلال نصف قرن، نتيجة للتغيرّات المناخية. استعاد "قصر طوكيو" المعرض اليوم، تزامنًا مع قمة المناخ الأخيرة، فالنسخة الأولى منه كانت في عام 2008.

سبعُ سنين عجاف يقيناً، مرّت منذ النسخة الأولى، فكان لا بدّ من "تنقيح" الأرقام، لتُقفل عند نهاية عام 2014. المعرض في أصله أيضًا، نتيجة لقاء فكري بين فيريليو ومدير "مؤسسة كارتييه للفن المعاصر" هيرفيه شانديس، الذي كتب : "لماذا إذن التمسنا بقوّة واحتضنا بول فيريليو؟ لأن المعرض بالنسبة لبول، تجربة مرئية للفكر، وفنّ موح". وهذا صحيح، فالمعرض بسيط ومعقد في آن واحد: غرفة نصف دائرية معتمة، وشاشة عملاقة تزنّر حائط نصف الدائرة. سيمرّ كوكبنا الأزرق مصورًا بالبعد الثلاثي من الغرب نحو الشرق. وعند كل مرور، يرسم على الشاشة "الأرقام الكارثية" من خلال علامات وإشارات: خارطة الأرض، وأعلام الدول، وعدادات أرقام، ورموز النقود، ونقاط صغيرة مضيئة تمثّل كل واحدة منها ألفًا من البشر. نقطة فأخرى، فسيل من النقاط تتحرك من دول الجنوب إلى دول الشمال، نتيجة للكوارث "الطبيعية" مجازًا، إذ إن جلّها من صنع يد الإنسان: حروب ومجازر ومذابح، تهجير داخلي وآخر نحو الخارج أي الشمال. تلمع باللون الأحمر دول بعينها : أفغانستان والعراق وباكستان والسودان وسورية وغيرها في إفريقيا وأميركا اللاتينية، لتقول الحرب والتهجير الداخلي، قبل أن تغدو حزم النقاط الخارجة منها خضراء دلالةً على الهجرة نحو الشمال. الشمال الغني القوي، الذي "استقبل" المهجرين واللاجئين في أرضه الصناعية المتقدّمة، سيؤدّي دور "صندوق النقود"، فالمهجرين واللاجئين العاملين في وظائف شتى، و"وضيعة" غالبًا،
سيرسلون إلى ذويهم في "الجنوب الفقير" ما يسدّ الرمق.

وفي لحظة، يتخلخل أحد أشهر الخطوط: خط الاستواء، ليرتفع صوب الشمال متعرجًا على هدي "الكوارث المناخية" وسخونة الكوكب التي لا يبدو أن المؤتمرين دوريًا في قمة المناخ مهتمون فعلًا بتبريدها.

من الصحيح إن ما يمت للمناخ بصلة حاضرٌ بقوّة في المعرض، عبر الصور الضوئية وأصوات حرائق غابات وغرق مدن كاملة، فضلًا عن النص المرافق، إلا أن العولمة بوجهها الأدنى إلى الرأسمالية المتوحشة هي المتهمة في كل هذا تقريبًا.

لا شيء في المعرض يشبه "الفن" وفقًا لما نعرفه عنه. إذ إن تغييرًا كبيرًا شاب النظرة إلى الفن في عالم اليوم: تراجع الجمالي أكثر من خطوة إلى الوراء، وتقدّمت الأفكار لتتصدر الواجهة وتبثّ مفاهيم جديدة، نقدية بالضرورة. وهنا أس المعرض ولبّه، إذ إن الفن الملتزم بمعايير اليوم، يمثله معرض "خروج" بقوة. فـ "التجربة المرئية للفكر والفن الموحي" بتعبير شانديس، لن يحضرا في وسائل الإعلام - أخت التدجين والتزوير وأداة السلطة الناعمة المفضلة وشبه المطلقة -، التي قد تتسلى بصنع فيلم وثائقي عن "المناخ" منبتًا عن السياسة، ومعزولًا عن الناس ومنحصرًا ببقعة من بقاع الأرض، لكنها لن تسمح مطلقًا لأفكار فيريليو أن "تبثّ" للجماهير، لتحفزّ فيهم، من خلال الفنّ المعاصر" قيم التحرر.

تلمع "سورية" حمراء على الشاشة الضخمة، تتوهج وتكتوي بنارين: نارٌ داخلية ونارٌ عالمية، نار الاستبداد ونار الخبث المنمق. وتتسلل منها نقاط مضيئة، لا تلبث أن تغدو حزمًا كبيرة تمثّل أهلها وهم ينزفون ويهربون خارجها. قد تبدو سورية واحدة من البلاد "المنكوبة"، وستنطفئ عمّا قليل، ليشع النور الأحمر في بلد "منكوب" آخر، كما لو أن "الحرب" تفصيل في التاريخ، الذي لوى التقدّم التقني عنقه، ليتناسب مع ما يريده أهل الشمال :"الهيمنة وإضفاء طابع البطولة على التقنية، التي تعمل على إخفاء الواقع، واقع الحياة، واقع حي سكني". مثلما يقول الفيلسوف بلغته الإشارية. ليست الحرب تفصيلًا في التاريخ وليس الناس محض نقاط مضيئة، ها هنا إخفاء كاملٌ للحياة.
إقرأ أيضا: اللغة وطنٌ بلا حدود

دلالات

المساهمون