"بركة": فنتازيا سوداء عن المجتمع الياباني

"بركة": فنتازيا سوداء عن المجتمع الياباني

13 يونيو 2016
(طوكيو: دار شوئيشا، 2016)
+ الخط -
يوم 11 مارس 2011، ضرب زلزال عنيف منطقة توهوكو، في الشمال الشرقي في اليابان، وابتلعت موجات التسونامي الناجمة عنه الموانئ والمدن على سواحل توهوكو، مما أدى إلى مقتل وفقدان أكثر من 18 ألف شخص.

في ذلك اليوم كنت في طوكيو وهي تبتعد عن توهوكو أكثر من 200 كم، ومع ذلك أفزعتني الهزات العنيفة والطويلة التي لم يسبق لي أن مررت بها في حياتي. ولكن الشيء الذي أفزعني أكثر من ذلك هو كارثة محطة فوكوشيما النووية الأولى لتوليد الطاقة التي توقفت بسبب الأضرار الناجمة عن موجات التسونامي، ولم نكن نعلم ما كان يجري لها في الحقيقة. وعرفنا فيما بعد أنها كانت كارثة خطيرة للغاية تعادل كارثة "تشيرنوبيل".

وحتى الآن، لاتزال المياه الملوثة بالإشعاع تتسرب من المحطة النووية وتتأجل عملية إزالة الوقود المنصهر، وما يزال أيضا هناك حوالي مائة ألف مهجّر من المناطق الملوثة. ورغم هذه الظروف الحرجة، ادعت حكومة اليابان الحالية أن أوضاع فوكوشيما "تحت السيطرة" من أجل الفوز بحق استضافة دورة الألعاب الأولمبية عام 2020. وكذلك تسعى الحكومة من أجل الحصول على مكاسب اقتصادية، إلى إعادة تشغيل المحطات النووية الأخرى التي توقفت عقب كارثة فوكوشيما، وتصدير محطات نووية إلى دول آسيا والشرق الأوسط أيضا.

تصور الكاتبة ناتسو كيرينو (Natsuo Kirino) في روايتها التي بعنوان "بركة" (Baraka) الصادرة عن دار نشر شوئيشا لهذا العام، بعض الجوانب المظلمة للمجتمع الياباني عقب كارثة فوكوشيما بأسلوب سوداوي. حيث تفترض هذه الرواية أن أضرار انفجار المحطة النووية قد لحقت بكل شرق اليابان، بما في ذلك طوكيو، وهاجر معظم السكان إلى غرب اليابان أو خارجها، وانهارت الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية في تلك المناطق. وفي الوقت ذاته تحاول الحكومة والشركات الكبرى التي انتقلت إلى أوساكا، العاصمة الجديدة في غرب اليابان، أن تقلل من شأن أضرار كارثة فوكوشيما، سعياً إلى تحقيق استضافة دورة الألعاب الأولمبية في أوساكا، على حساب ضحايا فوكوشيما والمهجرين الذين أصبحوا مستهدفين من قبل القوى المؤيدة لسياسة تطوير الطاقة النووية.

ولدت بطلة الرواية في إحدى المدن اليابانية لزوجين من المهاجرين البرازيليين المنحدرين من أصل ياباني. وانتقلت أسرتها، بعد سنة من ذلك، إلى دبي طلبا للعمل، وهناك غرر أحد الرجال بالأم واختطف بطلة الرواية، وأعطاها المختطفون اسما جديدا "بركة" لتعرض في سوق بيع الأطفال. اشترتها سيدة يابانية جلبتها إلى اليابان، ولكن السيدة ماتت في 11 مارس 2011 بسبب موجات التسونامي. وبعد أحداث كثيرة، عثر رجل مسن يُدعى "تويودا" على الطفلة في المنطقة الملوثة بالإشعاعات وقرر أن يربيها.

في سن السابعة، اكتشف سرطان الغدة الدرقية في جسد "بركة" وتركت عملية استئصال السرطان آثارا مثل العقد في عنقها، مما جعلها في أعين الناس رمزا لكارثة فوكوشيما وضحاياها المنبوذين في المجتمع، وكذلك مبعثا للأمل في البقاء على قيد الحياة حتى بعد الكارثة. عندها فكر "كاواشيما"، مدير شركة الدعاية التي تعمل لصالح الحكومة، في استغلال حالة "بركة" من أجل الدعاية لنجاح إعادة الإعمار للمناطق المتضررة، وحاول أن يقضي على "تويودا" وزملائه من الناشطين المعارضين للطاقة النووية.

وفي ما عدا شخصية "تويودا" الذي يحمي "بركة" بحب وحنان، تتسم سلوكيات الشخصيات الأخرى في هذه الرواية بالأنانية والاستغلال للغير وعدم احترام الآخرين، وهو ما تعتبره الكاتبة ناتسو كيرينو أعراضاً مرضية تشوب مجتمعنا اليوم. وقد أشارت الكاتبة، في إحدى مقابلاتها، إلى أن الفقر وعدم الاستقرار الوظيفي يتسببان في شرذمة المجتمع ويولدان العداء والكراهية تجاه المستضعفين اجتماعياً، بالإضافة إلى التسبب في الانهيار الأسري وإساءة معاملة الأطفال.

أما سبب اختيار دبي كموقع لبيع الأطفال في الرواية، فتقول عنه الكاتبة إنها ترى دبي تشكل الخط الأمامي لليبرالية الجديدة المتوحشة التي تخلق التفاوتات الاقتصادية عبر الحدود في ظل النمو الاقتصادي السريع. وتنتقد الكاتبة من جانب آخر، السياسات الرجعية عند الحكومة اليابانية الحالية التي تعطي مصلحة الدولة أهمية أكثر مما تعطيه لحرية الأفراد وحقوقهم. وتؤكد الكاتبة أن الروابط والتضامن بين الأفراد تعطي الإنسان أملًا في الصمود في مواجهة الدولة ذات الأنظمة الاقتصادية القوية.

وفي ختام الرواية، نجت "بركة" بنفسها بعدما ذاقت مرارة الخيانة وفقدان من وقفوا معها واحداً تلو الآخر. وأصرت رغم كل المخاطر على أن تبقى في اليابان وتخوض معركة قضائية بمساعدة بعض المؤيدين والمؤسسات الحقوقية الدولية لتنال البراءة لمناصريها الذين ألقي القبض عليهم بتهم ملفقة. وتزوجت بعد نضال طويل من أحد المناصرين لها، وأنجبت بنتاً. وهكذا تؤكد لنا الكاتبة ناتسو كيرينو إيمانها باستمرارية الحياة وأهمية المبادئ والمثل العليا في بناء مجتمع جديد مهما كان الطريق إليه شاقًا وطويلا.

(باحثة يابانية في الأدب العربي)

المساهمون