الدولة العربية وخفايا إخفاق مأسستها

الدولة العربية وخفايا إخفاق مأسستها

11 ابريل 2016
(بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2015)
+ الخط -
يدهشنا هيثم غالب الناهي بكتابه الجديد "الدولة وخفايا إخفاق مأسستها في المنطقة العربية" بطابعه الموسوعي. حيث شغل سابقا أستاذ العلوم الجينية، والرياضيات التوبولوجية، والذكاء الصناعي، في عدة جامعات بريطانية، ولكنه يكشف للقارئ عن ثقافته العالية في التاريخ الأوروبي والعثماني والعربي، وتعمقه في النظريات الفلسفية والفكرية التنويرية التي ساهمت في نشأة الدولة الغربية ومأسستها، وممارسات الدولة العثمانية التي أسهمت في إعاقة نشوء الدولة في المنطقة العربية.

يرجع الناهي مبادئ مفهوم الدولة الحديثة وهيكلتها في خضم عصر النهضة الأوروبية إلى تفاعل القيم "السياسية مع القيم الاجتماعية وعناصر الإنسان، وبروز الحضارة الأوروبية المنسلخة من لباس الكنيسة والتوجه لتفعيل العلوم الإنسانية وإزالة القناع عنها". إذاً مشروع الدولة كان جزءا من صيرورة طويلة أسست لها مفاهيم أرساها هيغل وأَشكَلها ماركس، باعتبارها انعكاسا لتناقضات المجتمع وصراعاته الطبقية وعلاقته بالإنتاج ووسائله (وهي بالتالي لا تتعدى أن تكون مرحلة من مراحله الشيوعية)، ليصل إلى نيتشه الذي رفض مفهوم الدولة واعتبرها كذبة كبيرة.

ولكن ما أشار إليه الناهي بحق، هو مركزية الليبرالية في تطور مفهوم الدولة الغربية والتي بدأت إرهاصاتها منذ عصر التنوير. لقد تطورت الليبرالية بشكلها الكلاسيكي منذ الثورة الفرنسية التي تميزت بإلغائها للإقطاع في عام 1789 وإعلان حقوق المواطن، ولتأخذ فيما بعد شكل الدولة الليبرالية الحديثة والتي يُظهر لنا الناهي أنها تحمل في طياتها الكثير من التناقضات، وتتجلى هذه التناقضات في صراع الحماقة والحضارة والذي يناقشه الناهي، انطلاقا من أدبيات ميشيل فوكو ويورغن هابرماس في دراسته لأسس الدولة القومية في الغرب.

ينتقل الناهي بعدها إلى دراسة الدولة المرتبكة التي أُسس لها في ظل الإمبراطورية العثمانية منذ عام 1073 ولم تنتج برأيه في المنطقة العربية إلا صراعات قبلية، قومية أو طائفية، حيث لم تتبن هذه الإمبراطورية أية مشروع تنموي لأطرافها (والتي أصبحت فقط مناطق لجمع الضرائب) مما جعل الفرد يحتمي بالعصبيات القبلية والطائفية في غياب الدولة. وقد أدى إنشاء الخلافة الإسلامية إلى إعاقة الدولة المدنية. وبرأيه، أدى وجود دولة السلطة المرتبكة مع نهاية الحرب العالمية الأولى إلى أزمة فكرية وقيادية في مجتمعاتنا العربية، تتسم عناصرها بالإلغائية والولائية والازدواجية في الشخصية. وفي هذه النقطة الأخيرة يظهر تأثر الناهي، الباحث العراقي، بفكر عالم الاجتماع علي الوردي.

لقد تأججت هذه الأزمة من خلال الاستعمار البريطاني والفرنسي على المنطقة العربية التي حكموها بنموذج الحماقة من دون حضارة، على حد تعبيره. وكل ذلك قد أسس لمجتمع الديكتاتوريات العسكرية التي عاشت على تأجيج الحروب الداخلية والخارجية، في ظل انتشار العقل التلفيقي والتعويل، ومنع أي عقل تواصلي (حسب مفهوم هابرماس). وينهي المؤلف أن الاجتياح الغربي للعراق والتدخل الغربي في العالم العربي في ما بعد الانتفاضات العربية، هو استمرار طبيعي لذلك، وتعبير عن "الفوضى الخلاقة" التي نادى بها السياسيون الأميركيون.

ورغم إعجابي بالسرد التاريخي لأزمة مفهوم الدولة وترسيخ ارتباكها منذ العهد العثماني، إلا أننا أمام دراسة تتبنى المقاربة ما بعد الكولونيالية، والتي غالبا ما أهملت الفاعلية الذاتية (agency) للفاعلين المحليين عندما أُسقطت على المجتمع العربي. والتي لعبت هذه الفاعلية دورا هاما بصفتها نخبا وطبقات اجتماعية متحالفة مع الديكتاتور العسكري والملكي أو بصفتها نخبا مناهضة ومعارضة. استخدمت النخب الأولى الطائفية والقمع الممنهج وسيلة لبسط سيطرتها وشرذمة المجتمع، وذلك بالتعاون مع القوى المهيمنة الغربية حينا وبدونها أحيانا كثيرة. فما الذي منع نظام صدام والأسد ومبارك من إرساء أسس الدولة المدنية ودولة المواطنة؟ إذا هناك برأيي مبالغة في تاريخية أزمة الدولة العربية، وتقليل من أهمية الديناميات المحلية لفهم هذه الأزمة.

وعلى الرغم من ذلك، يبقى كتاب الناهي وثيقة هامة في فهمنا لبعض أبعاد استعصاء المنطقة لأن تكون جزءا من المشروع الليبرالي الحداثي (بالمعنى الفلسفي وليس الاقتصادي) والديمقراطي.

(أستاذ علم الاجتماع، الجامعة الأميركية في بيروت)

المساهمون