النكبة مكوّن للهوية الفلسطينية

النكبة مكوّن للهوية الفلسطينية

31 مايو 2020
الأحفاد يحفظون رواية الأجداد عن النكبة (علي جاد الله/الأناضول)
+ الخط -
لم يكن أمام الفلسطينيين المقتلَعين من أرضهم والمرميّين في أرض الآخرين، مهزومين ومسروقين ومشتتين، سوى إدماج هزيمتهم في حياتهم، التي عليهم تأسيسها بالضد من الهزيمة ونتائجها المتوخاة، وهي اختفاؤهم عن الخريطة السياسية للمنطقة. لذلك ولدت الهوية الفلسطينية الحديثة من الانقطاع التاريخي الذي جرى بفعل هذه الهزيمة. أي ولدت الوطنية الفلسطينية بعد غياب الوطن وغياب أصحاب الوطن عن وطنهم. ويمكن القول، شكلت الهزيمة قطيعة نهائية مع التاريخ الفلسطيني السابق على الاقتلاع الفلسطيني. بمعنى آخر، ولدت الوطنية الفلسطينية الحديثة بفعل هذا الحدث التأسيسي، وبذلك يكون تَشكلها الحديث حصل في النصف الثاني من القرن العشرين زمانياً، ووليدة نجاح مشروع بناء دولة إسرائيل على أنقاض فلسطين، ما عنى غياب البلد عن الخريطة. وإذا ذهبنا خطوة إضافية إلى الأمام يمكن القول، ولد الشعب الفلسطيني في هذا السياق الزمني والحدثي، بمعنى أن الشعب الفلسطيني، كما الوطنية الفلسطينية الحديثة، ولدا بفعل النكبة.

لم يملك الفلسطينيون قبل عام 1948 مفهوماً حديثاً للوطن، حيث المواطن معني بكل متر من أرض وطنه. كان مفهوم الوطن "جزئياً" عند الفلسطينيين، إذا صح التعبير. لم يكن هناك وعي مجتمعي فلسطيني أن هذا الخطر يمكن أن يبتلع أرضهم ويرميهم خارجها. ترافق ذلك مع مفهوم الوطن الجزئي، حيث اعتبرت الأغلبية الفلاحية في فلسطين، القرية وطنها القومي النهائي. وعلى هذه القاعدة يمكن فهم ما سمي في التجربة الكفاحية الفلسطينية قبل النكبة بـ"الفزعة" حيث يذهب مقاتلو قرية لنجدة قرية مجاورة، وعندما تتراجع الهجمة الصهيونية يعودون إلى قراهم، باعتبار مهمتهم انتهت. كذلك يمكن قراءة صمود قرى فلسطينية أكثر من ستة أشهر بعد سقوط المدن الفلسطينية الرئيسية. امتلك المشروع الصهيوني خطة متكاملة للسيطرة على فلسطين، الخطة "دالت"، ولم يملك الفلسطينيون خطة متكاملة للدفاع عن أرضهم. عندما صمدت القرى في وجه العصابات الصهيونية، صمدت في مواقعها، ولم يكن لها صلات مع صمود قرى أخرى قريبة منها. حتى أكثر من ذلك، فإن بعض القرى التي صمدت صموداً بطولياً، عندما سقطت هذه القرى، باع مقاتلوها أسلحتهم إلى قرى أخرى كانت ما تزال صامدة، لأنهم في العقلية الفلاحية خسروا وطنهم النهائي، فطالما سقطت القرية التي ينتمي إليها، فهذا يعني بالنسبة للفلاح سقوط الوطن النهائي، وبالتالي القرية المجاورة هي وطن نهائي آخر لآخرين، ولا ضير في بيعه السلاح، لقد انتهت المعركة بالنسبة له. من جهة أخرى، هناك ظاهرة اللجوء في الوطن الفلسطيني، إذا كان من المفهوم أن الفلسطيني في دول الجوار قد اتخذ صفة اللاجئ، فكيف يمكن فهم أن يكون الفلسطيني لاجئ في ما تبقى من وطنه؟!

بفعل كارثة الاقتلاع، أخذ التاريخ الفلسطيني مساراً آخر، وانتقل الوطن الجزئي إلى وطن متخيل له طابع رمزي وبات أكبر من واقعه في الجغرافيا الواقعية. فالغياب الذي حصل لفلسطين من خلال الابتلاع الصهيوني للأرض الفلسطينية، ولتجربة المنافي التي دخلها الشعب الفلسطيني شتاتاً في عدد من الدول العربية، باتت هي الواقع الذي على الفلسطينيين أن يعيدوا تشكيل ذاتهم من خلاله، وهو ما كان. باتت فلسطين في المتخيّل أهم وأجمل من فلسطين الواقع، وباتت الفلسطينية كانتماء أكبر من حدود الجغرافيا الفلسطينية، أصبحت فلسطين وطناً مقدساً ومتعالياً ورمزياً ومتخيلاً. عندما عاش الفلسطينيون على أرضهم، كان مفهومهم عن الوطنية مفهوماً جزئياً، وانتماءً جزئياً، وعندما خسروا وطنهم باتوا يتوحدون كشعب على صورته التي رسمها مخيّالهم الجمعي، حيث بات الانتماء إلى الرمز والمتخيل أهم من الانتماء إلى الواقع الحقيقي.