خطايا السلطة في التعاطي مع إعلان صفقة القرن

خطايا السلطة في التعاطي مع إعلان صفقة القرن

22 فبراير 2020
وصلت خطايا السلطة إلى منع التظاهرات (عصام ريماوي/الأناضول)
+ الخط -
قدّم رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس مرافعته في الرد على إعلان صفقة القرن أمام مجلس الأمن الدولي، في 11 فبراير/شباط الحالي. جاءت الكلمة في 36 دقيقة بالتمام. ولست في معرض استعراض ردود الفعل الفصائلية والشعبية على الكلمة وما جاء فيها، ولن يجدي إجراء تحليل مضمون الكلمة التي جاءت بالمناسبة مكتوبة لكنها وقعت في شرك الإشادة "بالتخابر" بتبادل المعلومات الأمنية مع أجهزة المخابرات الأميركية والإسرائيلية، لكنها مرافعة عكست حالة من استمرار التيه والهوان والتردي لا التراجع فقط، ولم ترق في أغلب القراءات إلى حجم التبعات والتهديدات التي تتقصدها الخطة الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية.

قد يُحجم المرء عن جلد السلطة ويكتفي بالوجوم على خطاب المرافعة الذي تراجع مستواه ومحتواه بالمناسبة عن خطابي الرجل في موضعين هامين؛ الأول وطني داخلي حدث في اجتماع رام الله بحضور الفصائل الفلسطينية، وقد كانت تلك فرصة لتقديم خطاب جامع يضمن المرور لمصالحة وطنية كواحدة من أهم مقتضيات مواجهة صفقة القرن، لكن هذا لم يحدث. والثاني كان قوميا عروبيا في اجتماع مجلس جامعة الدول العربية، ولم يفلح في حشد موقف عربي رسمي أيضا، وبدا التمسك ببث كلمة الرجل- في مجلس الجامعة العربية- على الهواء مباشرة أفضل المتاح عربيا للسلطة الفلسطينية، وربما أعلى سقف تطلبه وتحققه.

لم تكتف السلطة بالخطاب الباهت في موقفها من إعلان صفقة القرن في ثلاثة مواضع (رام الله- القاهرة- مجلس الأمن)، لكنها انتقلت عقب ذلك مباشرة إلى الممارسة، ولا يُقصد بالممارسة هنا الذهاب بعيداً في رفض الصفقة أو وقف التنسيق الأمني أو التلويح باللجوء إلى الشارع الفلسطيني، لكنها ممارسة معكوسة تماما، ذهبت السلطة في ممارستها إلى الاقتراب من إسرائيل حدا غير مسبوق، وبدا الأمر كسلوك مؤسساتي رسمي أكثر مما بدا كأسلوب شخصي يقدمه أو يقتصر على رئيس السلطة الفلسطينية، سينتقل الخذلان من شخص رئيس السلطة إلى كافة المؤسسات الرسمية ممثلة في السلطة والمنظمة وحركة فتح.

في زمن التطبيع العربي المستند على ذريعة أن العرب ليسوا ملكيين أكثر من الملك، وأن الفلسطينيين طبّعوا أولاً وماضون في التطبيع الذي لم يعقه ولم يعطله بالمناسبة إعلان صفقة القرن، فقدمت السلطة ومؤسساتها جسراً جديداً لمرور التطبيع، الخطيئة التي تجاوزت كل الأعراف وقفزت عن المزاج الشعبي والفصائلي وقعت خلال 48 ساعة وتكررت مرتين، الأولى عندما اجتمع ممثلون عن السلطة الفلسطينية وعن حركة فتح وعن منظمة التحرير الفلسطينية بصحافيين إسرائيليين - قرروا ارتداء لباس المستوطنين وقبعات الكيباه- في رام الله، وتحديداً في قاعة متحف الشهيد ياسر عرفات، والإطار الجامع للاجتماع لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي، وهي لجنة تتبع منظمة التحرير الفلسطينية وأسست بإيعاز من رئيس السلطة الفلسطينية عباس عام 2012.

وإيغالاً في الإغضاب، ولأن الصفقة لم تخل من البعد الديني، تقرر أن يتناول المدعوون الإسرائيليون طعام الغداء برفقة المستشار الديني لرئيس السلطة، الشيخ محمود الهباش. ولأننا في زمن الردى، ولأن الاقتراب من إسرائيل ضمانة للبقاء في الموقع والموضع، ولأن الغداء مع الهباش قد لا يكون كافيا للوفد الإسرائيلي، تطوّع الناطق باسم الرئاسة الفلسطينية، نبيل أبو ردينة، وقدم موقفا لا يعكس حقيقة المعلن في خطاب السلطة، إذ بدا التناقض واضحًا بين ما تقوله السلطة وما تفعله؛ فقال أبو ردينة للإسرائيليين "إن السلطة مستعدة لتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل خلال أسبوعين، بشرط أن توافق إسرائيل على إقامة دولة عاصمتها القدس"، لم يقل أبو ردينة ما هو محتوى وفحوى السلام المراد توقيعه، علما أن إعلان الصفقة قال بإمكان الفلسطينيين تسمية أي منطقة في القدس واتخاذها عاصمة لهم.

الخطيئة الثانية بدت أعمق هذه المرة، وإن كانت قد سبقت الخطيئة الأولى في الزمان والمكان. ففي 14 فبراير، وتحديداً يوم الجمعة، شاركت شخصيات فلسطينية رسمية في لقاء مع إسرائيليين في تل أبيب، والعذر الأقبح من الذنب أن اللقاء جاء "من أجل مواجهة صفقة القرن"، واختير له شعار "برلمان السلام". قطعا، لم يكن المشاركون نشطاء سلام أو شخصيات عادية، لكنهم كانوا من الوزن الثقيل، وزن الوزراء كوزير الصحة السابق فتحي أبو مغلي، ورئيس ديوان الرئاسة ووزير الحكم المحلي السابق حسين الأعرج، وباسم خوري وزير الاقتصاد الوطني. ولا أدري ما دلالة أن يشارك وزير الأسرى السابق أشرف العجرمي، وكأن السلطة لا تكتفي بإغضاب الشارع الفلسطيني وفصائله، لكنها تريد أن يكون للأسرى نصيبهم.

خطايا السلطة التي بدت في مواقفها وممارساتها من إعلان صفقة القرن أكبر من أن تعدّ أو تحصى، بل إنه من الصعوبة فهم دلالة المؤتمر الصحافي الذي عقده رئيس السلطة محمود عباس مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت، بعد خطابه في مجلس الأمن، ورثائه للسلام والمفاوضات. هل كان الهدف إغضاب غزة مثلاً، عندما تجاهل جرائم أولمرت في نهاية عام 2008 ومطلع عام 2009 حربه المدمرة على القطاع.

لقد وصلت خطايا السلطة إلى منع التظاهر ضد إعلان صفقة القرن، وأطلقت يد الأجهزة الأمنية لتجهز على المتظاهرين في أكثر من مكان، وقد تعمدت أن يكون الأمر موثقا وعلى الهواء مباشرة، كما بدا في الخليل وجنين. إن رفض السلطة إعلان صفقة القرن في خطابها بغض النظر عن محتواه فقد جدواه ومصداقيته في ممارساتها.

إن تعاطي السلطة الفلسطينية ومؤسساتها الباهت والبارد مع إعلان صفقة القرن على مستوى الخطاب والممارسة، أفضيا إلى انتفاء الفرصة في اجتراح مصالحة وطنية حقيقية. وقد كان الإعلان عن الصفقة فرصة تاريخية للتصالح الوطني الفلسطيني. والأهم أن تعاطي السلطة أسقط من حساباته الشارع الفلسطيني ومقدرته على قلب الطاولة ورفع تكلفة الاحتلال حتى الغضب الشعبي حال تعاطي السلطة بينه وبين إخراجه في وجه الاحتلال. وبدت السلطة تدور في دائرة مفرغة في استمرار الرهان على المجتمع الدولي ومؤسساته وتغليب هذا الرهان على الحاضنة الشعبية الفلسطينية. مع العلم أن هذا المجتمع الدولي وقراراته قد قدما حق الشعوب في تقرير مصيرها باستخدام الكفاح المسلح الذي شيطنه خطاب السلطة وجرّمه وأسقطه من حساباته.

تعاطي السلطة الفلسطينية مع إعلان صفقة القرن يعني في أحد معانيه استمرار الانقسام الفلسطيني، ويعني العجز فلسطينياً عن اجتراح استراتيجية وطنية فلسطينية قادرة على مواجهة الصفقة وتبعاتها أو حتى بلورة موقف وطني جامع مانع. صحيح أن هناك موقفا لكنه موقف الضرورة، إذ لا يمكن لأي فلسطيني أن يقبل بالصفقة، لكن الرفض وحده والاكتفاء به غير كاف. وهو رفض لم تثبت جديته وجدواه منذ الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل، ورغم ذلك استمر الاكتفاء بالرفض واستمرت واشنطن في خطتها.

وتعاطي السلطة أجهض إمكانية حدوث انتفاضة فلسطينية شعبية جديدة تعيد الاشتباك مع الاحتلال وترفع تكلفته وتعطل مشاريعه في الضم والتهويد والاستيطان والتغول، وتثبت الحق الفلسطيني في الوجود وتستنهض قدراته وإمكانياته.
لم يمض الوقت بعد، فهل تتلقف السلطة الحاضنة الشعبية الفلسطينية وتدعم صمودها، أم تستمر في إضاعة الفرص وارتكاب المزيد من الخطايا؟

المساهمون