جولات التصعيد والبحث عن التسويات في غزة

جولات التصعيد والبحث عن التسويات في غزة

29 ديسمبر 2019
كانت غزة على موعد مع عدة جولات تصعيد(مصطفى حسونة/الأناضول)
+ الخط -
لم يكن للقيادة العسكرية والسياسية الإسرائيلية أن تتعاطي مع جولات تصعيد محدودة، وتسعى جاهدةً للحيلولة دون تطورها إلى حرب شاملة، لولا تبدل الأحوال في قطاع غزة، وبروز متغيرات إقليمية وبدرجة أقل دولية متعددة الاتجاهات بتعقيداتها وتشابكاتها، وربما أيضاً لحسابات داخلية سياسية وحزبية أثقلت الساحة الإسرائيلية في السنوات القليلة الماضية. هذه حصيلة أربع جولات تصعيد خلال العام المنصرم، وتسع جولات خلال عام 2018، ولكن ليس بالضرورة خلال العام القادم، فقطاع غزة وكما للتسويات المرحلية فرص، هناك عوامل تفجر لا تخضع لحسابات معقولة ولا لسيناريوهات مدروسة.

ربما يكون منطق التسويات حديثاً التي اعتادت عليها إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية بوساطة مصرية أو أممية، لم يكن الأساس في تعاطي المؤسسة الأمنية بالتحديد خلال العقود السابقة مع غزة وفصائلها، فكان جيش الاحتلال الإسرائيلي سباقاً في حروبه على الدول العربية وفي حملاته العسكرية على طريقة الحروب المصغرة بين الحروب الكبرى، فكانت نوايا "العدو" بالنسبة لإسرائيل، أو تزود أحد الجيوش العربية بعتاد عسكري نوعي، أو فعل مقاوم نوعي من حركات المقاومة الفلسطينية عبر الحدود، كفيلة بقرار سريع يترجم عملياً إلى حرب موسعة أو عملية محدودة. وهذا المنطق انسحب على قطاع غزة طيلة سنوات انتفاضة الأقصى تقريباً حتى عام 2012، غير أن جُملة من المتغيرات تراكمت خلال العقد الأخير أرخت بظلالها على صورة المشهد الإسرائيلي العام، وعلى واقع المقاومة في قطاع غزة، وعلى مركبات القوة والمخاطر المحيطة بإسرائيل، أفضت بالضرورة وبقرار سياسي وعسكري إلى سلوك حذر ومتردد أحياناً في التعامل مع تطورات الأحداث في غزة.

أولاً: متغيرات متعلقة بإسرائيل
طرأ تبدل في سلم التهديدات التي تواجه دولة الاحتلال على المستوى الإقليمي، التي قدمت التهديد الإيراني، ثم حزب الله في لبنان، وثالثاً المقاومة الفلسطينية في غزة. غير أن استتباب الأمر للنظام السوري بمساعدة روسيا وإيران، وعودة مقاتلي حزب الله من سورية أكثر خبرة، دفع إسرائيل إلى تقديم التحدي القادم من الشمال كأولوية وتهديد وشيك، في ظل الحديث المتكرر عن امتلاك الحزب أكثر من 120 ألف صاروخ قادرة على استهداف أي نقطة داخل دولة الاحتلال. وبالتالي، فإن إسرائيل ترجح تأجيل مسألة قطاع غزة رغم أنه جغرافياً أقرب إلى خاصرة الكيان من لبنان، وتغليب التسويات على الحرب المفتوحة.

السبب الثاني وربما هو الأهم يتعلق بالمقاومة في قطاع غزة، والتي باتت تشكل عنصر ردع نسبي للاحتلال من الانجرار نحو حرب مفتوحة، وتغليب التهدئة ووقف إطلاق النار عليها. فحسب المصادر الإسرائيلية، فإن المقاومة لديها عدة آلاف من الصواريخ قادرة على ضرب العمق الإسرائيلي عشرات الأيام من دون تمكن الآلة العسكرية والأذرع الاستخبارية من وقفها، في وقت يعلن ما يسمى بقائد "الجبهة الداخلية" في إسرائيل، أن الجبهة الداخلية غير مستعدة لمواجهة رشقات من الصواريخ لعدة أسابيع.

وعلى نحو متصل إذا ما قرر جيش الاحتلال الإسرائيلي شن حرب شاملة ضد قطاع غزة، فإنه لن يكون قادراً على تغيير الواقع في القطاع إلا بحملة برية واسعة تستمر عدة أشهر تستوجب بالضرورة الدخول إلى كل شارع وحي ومخيم والقتال في كل شبر، وهو من الناحية النظرية ممكن، غير أنه على أرض الواقع قد يكون غير عملي، لأن هذه الحملة، وحسب التقدير الإسرائيلي المتواضع، ستتسبب في خسائر بشرية، على الأقل 500 عسكري إسرائيلي قتيل وآلاف الجرحى، عوضاً عن الخسائر المادية المباشرة وغير المباشرة. وحسب نفس التقدير، فإن المجتمع الإسرائيلي غير قادر على تحمّل خسائر بشرية بهذا الكم.

ومن ناحية أخرى، فإن قطاع غزة، والذي سيطرت عليه حركة حماس عام 2007، شكل قنبلة موقوتة بالنسبة لإسرائيل في ظل تعدد القوى المسلحة؛ منها جماعات تنتمي للسلفية الجهادية، ورغبة جامحة في المواجهة، مع انخفاض مستوى المعيشة وارتفاع نسب البطالة والفقر، وهي أقرب، حسب التعبير الإسرائيلي، إلى "عش الدبابير". ولكن رغم حالة العداء بين إسرائيل والسلطة الحاكمة في غزة وجولات التصعيد العسكرية، إلا أن إسرائيل تفضل عنواناً في غزة قادراَ على ضبط الأمور ولجم الحالات والجماعات والتنظيمات المسلحة. وفي حال اندلاع حرب شاملة تفضي إلى انهيار حكم حماس، فإما أن تضطر إسرائيل إلى إدارة غزة وهو من المستحيلات، أو بسط السلطة الفلسطينية سيطرتها على القطاع، ولكنها لن تكون قادرة على فرض نفسها، للتحول إلى بؤرة متفجرة تشكل إزعاجاً دائماً لإسرائيل.

ثانياً: متغيرات المقاومة في غزة
للمقاومة في غزة اعتباراتها الداخلية وأسبابها الإقليمية التي ترجح معها التجاوب مع عروض التهدئة، ونظراً لأن حالة الحصار منذ سنوات هي أحد بواعث تفجّر الأحداث، فإن عروض التهدئة ووقف إطلاق النار لم تكن كافية، فالمطلوب كان تخفيف الحصار المضروب على مليوني فلسطيني منذ 13 عاماً، من خلال السماح بتصدير البضائع، وإدخال الأموال، والسماح بدخول الأصناف الممنوعة التي يطلق عليها الاحتلال "الأصناف مزدوجة الاستخدام"، وهو ما تمثل في ترتيب تسويات جزئية تضمن تخفيف الحصار في مستويات معينة. ولم تكن فصائل المقاومة متحمسة لحرب شاملة، رغم أن العروض الإسرائيلية لم تكن كافية، وكان من اليسير على الإسرائيليين التخلي عنها. وتعتبر المتغيرات الإقليمية ربما السبب الأهم في إيجابية التعاطي مع الجهود المصرية والأممية، فقد ازدادت وطأة الحصار على القطاع في سياق ارتدادات هجمة الثورة المضادة على "الإسلام السياسي"، على اعتبار أن قطاع غزة جزء من منظومة الإسلام السياسي التي يناصبها النظام العربي الرسمي العداء، فقد شرع النظام الانقلابي في مصر في حملة شرسة لتشديد الحصار وقطع خطوط الإمداد، خاصة العسكرية منها، وإغلاق معبر رفح. ومع نهاية عام 2016 كان النظام الانقلابي، وعلى أغلب الظن بتنسيق مع إسرائيل، قد تمكن من قطع جميع خطوط الإمداد العسكري لفصائل المقاومة، والتي شكلت نقطة مركزية في قرار السلم والحرب بالنسبة للفصائل، بمعنى أن استنفاذ المخزون الاستراتيجي العسكري لفصائل المقاومة في أي حرب مفتوحة سيفضي إلى انكشافها وضعف مناعتها في صد أي عدوان تال، مهما كان حجمه على قطاع غزة.

ومن التداعيات السلبية لإنجازات الثورة المضادة، غياب الحلفاء لقطاع غزة كساحة للمقاومة، ليس ذلك فقط، بل تحولت بعض الأنظمة في الإقليم التي انتمت إلى روح ثورات الشعوب العربية في موجتها الأولى، إلى عدو يستجدي دعم إسرائيل ويتوسل الإسناد من الإدارة الأميركية، ولو على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، وهو ما تبدّى واضحاً خلال حرب عام 2014، التي تواطأ فيها نظام السيسي مع إسرائيل في حربه على غزة، بينما كانت بعض الدول الخليجية (السعودية، الإمارات، البحرين) تنتظر على أحرّ من الجمر قيام جيش الاحتلال الإسرائيلي باجتياح قطاع غزة وإسقاط "حكم الإخوان المسلمين" في غزة. وبالتالي، فإن المقاومة في غزة فضلت التسويات في هذه البيئة الإقليمية المعادية التي تجلت في اتفاقيات التهدئة خلال العامين الماضيين، لأن المقاومة وفي أي صراع مفتوح مع إسرائيل لن تجد حلفاء حقيقيين في الإقليم، بل أعداء ربما يلحّون على إسرائيل لتصفية حسابها بالكامل مع المقاومة الفلسطينية في غزة.

ومن ناحية أخرى، فإن للمقاومة الفلسطينية أيضاً حساباتها الأخرى بعد أن تضع الحرب أوزارها، والتي ستخلف آلاف الشهداء والجرحى، وتدميرا كبيرا للبنية التحتية، وللأراضي الزراعية، وبيوت المواطنين، وهو ما تجسد في حرب عام 2014، التي ما زال 10% من المنازل المدمرة بالكامل بفعلها لم تنل نصيبها من الإعمار، لغياب الدعم المالي الذي وُعدت به غزة، فكيف سيكون حال قطاع غزة مع الحرب بعد سنوات طويلة من الحصار والفقر وارتفاع نسب البطالة؟

يبدو، وعلى ضوء هذه المتغيرات، أن الاحتلال الإسرائيلي الذى اعتادت مؤسسته العسكرية حسم الحروب سريعاً، وفي زمن قياسي خارج النطاق الجغرافي للكيان، يواجه واقعاً إقليمياً استراتيجياً لا ينسجم مع واقع سنوات ما قبل العقد الثاني من القرن الحالي، فقد تشكل واقع "ناري" من آلاف الصواريخ يحيط بالكيان، دفع بمحللين ومراكز أبحاث وسياسيين إسرائيليين، ربما لأول مرة في تاريخ الدولة العبرية، إلى اعتبار أن تهديداً وجودياً حقيقياً يحيط بالكيان، وهذا ما يفسر التردد غير المعهود في الإسراع نحو خوض الحروب والانخراط في الصراعات الكبرى.

ينتهي عام 2019 وسياسة اللا سلم واللا حرب مع ترجيح التسويات الجزئية في غزة هي سيدة الموقف، بما يتلاءم مع الواقع الجديد الذي فرضته المتغيرات الخاصة بإسرائيل وفصائل المقاومة التي تمت الإشارة إليها. ومن بين تفاصيل هذه التسويات الجزئية يمكن التكهن بسياسة دولة الاحتلال تجاه غزة، والتي هي امتداد للسنوات القليلة الماضية، وتتمثل في الحيلولة دون الوصول إلى حالة حرب مفتوحة، والاكتفاء بجولات تصعيد محدودة، والتي تنتهي في العادة بتهدئة، وإبقاء حالة الحصار على القطاع مع بعض التسهيلات ولكن من دون رفعه بالكامل في انتظار تحقيق تسوية شاملة أو تهدئة طويلة. ولكن يجب التأكيد على أن الحالة الأمنية للقطاع قد تتبدل في أي لحظة وفقاً لأحداث ميدانية غير مخططة، أو لصراع إقليمي قد يندلع يصل شرره إلى القطاع.