دعوة مفاجئة ومريبة

دعوة مفاجئة ومريبة

27 أكتوبر 2019
+ الخط -
على نحو مفاجئ أعاد الرئيس محمود عباس طرح فكرة إجراء الانتخابات في الضفة، غزة، والقدس، الأمر بدا أكثر جدية ولو شكلاً مع دعوة لجنة الانتخابات للاستعداد والطلب منها السفر إلى غزة للقاء قادة حماس والفصائل والاتفاق معهم على الخطوات التنفيذية من أجل عقد الانتخابات التشريعية أولاً على أن تعقبها الانتخابات الرئاسية دون تحديد فترة زمنية محددة، ودون الإشارة إلى انتخابات المجلس الوطني.

دعوة عباس بدت مفاجئة وحتى مريبة لعدة أسباب، منها أنها جاءت من نيويورك أثناء إلقاء كلمته في الاجتماعات السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، كما أنها تزامنت مع مبادرة الفصائل الثمانية للمصالحة وإنهاء الانقسام، والسبب الأهم ربما أنها لم تتضمن أي خطوات تمهيدية لتهيئة الظروف المناسبة أمام الانتخابات، إضافة إلى السبب الأكبر المتمثل بالحديث عن انتخابات تشريعية فقط قبل الاستدراك لاحقاً، والزعم أن الانتخابات الرئاسية ستجري بعدها بفترة وجيزة بحجة منع حدوث فراغ قيادي في السلطة.

بدا مريباً أن يطرح الرئيس عباس الفكرة في نيويورك وليس في رام الله أو غزة مثلاً، بدت أو تبدو وكأنها موجهة للمجتمع الدولي وليس للشعب الفلسطيني، الهدف طبعاً نيل شرعية دولية وتكريس فكرة أن الرئيس يريد ويسعى لانتخابات ديمقراطية وإذا ما تعذر إجراؤها، فالمشكلة ليست عنده بل عند الآخرين.

هذا في الشكل؛ أما في المضمون، فلا يمكن الجدال في أهمية الذهاب إلى الانتخابات، خاصة عند حدوث انسداد أو احتدام الاختلاف والانقسام داخل الطبقة السياسية، لكن ما يثير الريبة هنا أن الدعوة لم تتضمن أي خطوات لتهيئة الظروف أمامها باستثناء دعوة لجنة الانتخابات لتحضير نفسها للعمل وإنجاز المهمة المنوطة بها.

من هنا، تبدو الدعوة وكأنها تهدف لقطع الطريق على مبادرة الفصائل الثمانية التي تحدثت عن خارطة طريق واقعية لإجراء الانتخابات، لكن بعد التئام الإطار القيادي المؤقت لمنظمة التحرير، ثم تشكيل حكومة وحدة وطنية تعمل على تخفيف الاحتقان، وتهيئة ظروف مناسبة فعلاً أمام انتخابات تشريعية ورئاسية متزامنة بعد عام من الآن تقريباً.

غير أن الرئيس عباس أخذ بند الانتخابات فقط من المبادرة لقطع الطريق عليها، مع سيل من الاتهامات للفصائل وحملة إعلامية مركزة ضدها من قبل فتح والسلطة، والمطالبة بتوجيهها إلى القاهرة باعتبارها الوسيط الحصري في عملية المصالحة، رغم تحفظ رام الله غير المستتر على تلك الوساطة شكلاً ومضموناً.

إلى ذلك أعتقد أن اللغم الأهم في اقتراح عباس يتمثل بالدعوة إلى انتخابات تشريعية فقط، ثم تم التصحيح لاحقاً عبر الإعلان عن أن الاستحقاق الرئاسي، سيجري بعد فترة وجيزة من نظيره التشريعي دون تحديد سقف زمني محدد.

يعرف الرئيس عباس طبعاً أن حماس - والفصائل - لن توافق أبداً على إجراء انتخابات تشريعية فقط، وحجة الفراغ واهية جداً ومتهالكة، لأن الواقع الحالي هو نفسه تشريعياً ورئاسياً، والمريب هنا أن أبا مازن بدا وكأنه لا يريد إجراء انتخابات رئاسية أو أن قرار إجرائها مرتبط بنتائج التشريعية وإذا أتت على هواه أو لا.

أما المريب أكثر فيتمثل بعدم الإشارة من قريب أو بعيد إلى انتخابات المجلس الوطني ضمن الحزمة الانتخابية الثلاثية وفق وثائق وتفاهمات المصالحة جميعها. وهنا أيضاً ثمة رغبة في إبقاء الواقع الحالي، علماً أن انتخابات المجلس الوطني الأخيرة كانت صورية وغير ديمقراطية، بعدما قاطعتها معظم الفصائل الفلسطينية ذات الثقل، ما ينزع الشرعية الميثاقية عن المجلس، كما عن المؤسسات المنضوية تحته بما في ذلك اللجنة التنفيذية الجديدة لمنظمة التحرير.

ثمة مشكلة أخرى تتعلق بإجراء الانتخابات في القدس، وحكومة تل أبيب سترفض ذلك حتماً، ربما يتم البحث عن حلول تقنية أو إدارية لكيفية مشاركة أهل المدينة، وبدونهم لا يمكن إجراء الانتخابات أصلاً، كون ذلك يعتبر تخلياً عنهم وتنازلاً عن المدينة نفسها لصالح الاحتلال الإسرائيلي.

موقف حماس من اقتراح عباس كان واضحاً جداً، للدقة فقد دعمت الحركة بقوة مبادرة الفصائل كما أيدت رغم أزماتها ومشاكلها المتفاقمة في غزة - تعي أن فرصها أفضل من فتح المشتتة والمتهالكة - الدعوة لانتخابات متزامنة رئاسية وتشريعية، ضمن أجواء توافقية عامة تتعلق أساساً بالنزاهة، كما بتقديم ضمانات وتعهدات بالاعتراف بنتائج الانتخابات أياً كانت، من قبل مختلف الأطراف، تحديداً حركة فتح وقيادة السلطة في رام الله.

عموماً أعتقد أن دعوة عباس ليست جادة، هي مناورة لقطع الطريق على مبادرة الفصائل، كما على احتمال إجراء الانتخابات بحزمتها الثلاثية الكاملة، هو يعي موقف حماس جيداً، كما يعي صعوبة إجرائها في القدس وضرورة بذل جهد جماعي وضغط متعدد على الاحتلال لمشاركتها في العرس الوطني الديمقراطي، قبل ذلك كله فإنها تحتاج إلى حد أدنى من التوافق السياسي على المبدأ نفسه - إجراء الانتخابات - كما على المنظومة السياسية العامة في مرحلة هجينة بين التحرر الوطني والاستقلال، والتوافق على القواعد النضالية الأساسية السلمية لاسترجاع الحقوق، مع الانتباه إلى أن الاقتراع وحكم الصندوق يمثل قمة الخيارات السلمية للشعوب في الأنظمة الديمقراطية، وأعتقد أيضاً أن عباس بصفته من منظومة الفلول القدامى التي أسقطتها الثورات العربية - هو في السلة نفسها مع حسني مبارك وزين العابدين بن علي - غير جاد بإجراء الانتخابات أو يريدها جزيئة منقوصة على غرار عراضة المجلس الوطني الأخيرة، بدليل هيمنته على كل السلطات وحل مجلس القضاء الأعلى وحتى حجب عشرات المواقع الإخبارية والإعلامية في الضفة الغربية، هو يبحث فقط عن اكتساب شرعية ما، عبر إبداء الاستعداد لإجراء الانتخابات مع تحميل المسؤولية لخصومه في حالة عدم حصولها، أما إجراؤها في الضفة فقط فكارثة لا تقل أبداً عن عدم إجرائها بالشكل الصحيح وطنياً ديمقراطياً ومؤسساتياً، لإدامة الوضع الحالي البائس والكارثي أيضاً.