العوامل الذاتية لاستمرار النكبات

العوامل الذاتية لاستمرار النكبات

15 مايو 2018
+ الخط -
ما زلنا نعيش التبعات السياسية والاجتماعية المترتبة على نكبة عام 1948، والتي ازدادت وتعمقت رويداً رويداً، حتى أصبح الخطر يحاصر ويخنق مجمل القضية الفلسطينية، وبجميع أبعادها السيادية والشعبية والسياسية، ونوعاً ما الحقوقية. من تمييع وتشويه حق الفلسطينيين في العودة إلى منازلهم وأراضيهم الأصلية، إلى التلاعب بحق السيادة الفلسطينية على جميع الأراضي المحتلة، بما فيها الأماكن المقدسة، مروراً بإنكار حق الفلسطينيين في الدفاع عن حقوقهم، وبجميع الوسائل المشروعة، السلمية منها والعسكرية.
فنحن نعيش اليوم مرحلة عالمية تجسد المعنى الحرفي لسيادة قانون الغاب، الذي ينطلق من فرض إرادة ومخططات القوى المسيطرة عالمياً، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية، وطفلها المدلل الاحتلال الإسرائيلي. والتي تضرب عرض الحائط القانون الدولي، والحقوق التاريخية والطبيعية الفلسطينية، وغير الفلسطينية، وفقاً لطبيعة مصالح القوى المسيطرة. كما نشهد استسلاما عربيا كاملا لها، يصل إلى درجة التماهي والانصهار الكامل معها، لتتحول غالبية الدول العربية؛ إلى إحدى أدوات السياسة الأميركية والإسرائيلية، في فرض الأمر الواقع على الشعب الفلسطيني، من دون مواربة أو تجميل.
ويتمثل الفرق الجوهري، وربما الوحيد، بين الظروف الموضوعية المرافقة النكبة، والمرافقة نكباتنا أو انكساراتنا الراهنة، في مدى وضوحها ومباشرتها، الأمر الذي يعزز من مشاعر إحباط واحتقان وغضب الفلسطينيين والعرب إجمالاً. وهو ما سوف ينعكس تلقائياً من خلال تصاعد مظاهر المواجهة الفلسطينية وربما العربية الشعبية، بالتوازي مع محاولات الأنظمة لكبحها والسيطرة عليها، كما يحدث الآن بما يخص فعاليات العودة التي انطلقت من داخل قطاع غزة المحاصر.
وهو ما يتطلب من جميع وطنيي وأحرار فلسطين والمنطقة العربية، تحصين وحماية المقاومة الشعبية، من أجل التصدي لجميع محاولات إنهاء القضية الفلسطينية، كخطوة أولى وضرورية لاستعادة زخم حركة التحرر الفلسطينية والعربية، عبر تدارك الأخطاء والعثرات المتعددة والمتكررة، التي رافقت مسيرة النضال العربي والفلسطيني. هذا النضال المستعر والمتوهج منذ بدايات الانتداب البريطاني، وحتى اللحظة الراهنة، والمتنوع من حيث الأسلوب والشكل سلميا وعسكريا، كالإضربات الشاملة والجزئية، والمظاهرات والاحتجاجات على جميع ممارسات الاحتلال وداعميه، بالإضافة إلى أشكال المقاومة الحقوقية والإعلامية، التي تعمل على توعية المجتمع الدولي بجميع الحقوق الفلسطينية المغتصبة، كما تحاول صياغة النصوص القانونية الدولية، بالشكل الذي يعبر عن حقوق الفلسطينيين، وأخيراً عبر المقاومة المسلحة، سواء الشعبية منها، أو المنظمة داخل وخارج الأراضي الفلسطينية.
لذا وانطلاقا من أولوية حماية وتحصين المقاومة الشعبية، علينا الانتهاء من إلقاء مسؤولية نكباتنا وهزائمنا وانكساراتنا على التآمر الدولي والإقليمي فقط، والانتقال إلى التدقيق في مجمل الأسباب المحلية والذاتية المسؤولة بشكل مباشر، أو غير مباشر، عن نكبة 48 وما تلاها حتى اليوم. حيث تسهل على أي متابع لحيثيات الصراع العربي-الإسرائيلي-الصهيوني، ملاحظة حجم التضحيات والنضالات الشعبية الكبيرة، لا بل والضخمة، في مقابل محدودية المكتسبات الوطنية، إن لم نقل غيابها الكامل.
وعليه لا بد من البحث عن جميع الأسباب التي عملت على بعثرة نضالنا، وتجريده من عوامل قوته السياسية والاجتماعية، حتى حولت أحد أعظم النضالات الشعبية في التاريخ الحديث، وربما القديم، إلى موجات من التنفيس الشعبي، تكاد تخلو من أي إنجاز ملموس. ومن أهمها أزمة القيادة الفلسطينية، القائمة على شقين؛ يتمثل الأول في تقويض إمكانيات اختيار الحركة الشعبية قياداتها الوطنية، استناداً إلى الحركة النضالية اليومية، بينما يتمثل الثاني في سيطرة القيادات الاجتماعية التقليدية - العشائرية وكبار العائلات المالكة والمعروفة- على تمثيل النضال والقضية الفلسطينية، في مرحلة النضال الأولى الممتدة منذ بدايات الانتداب البريطاني، وحتى سيطرة حركة فتح على منظمة التحرير الفلسطينية. ومن ثم سيطرة القيادات المدعومة من مختلف القوى والأنظمة العربية، ونسبياً الدولية، في المرحلة الثانية الممتدة حتى اللحظة الراهنة.
حيث تميزت كلتا الفترتين الزمانيتين بعشوائية القيادة، وعجزها عن مواكبة التطورات السياسية الدولية والمحلية، فضلاً عن عدم قدرتها على مواكبة حركة الشارع، الذي لطالما كان في مقدمتها، الأمر الذي كان يدفع هذه القيادات، إلى إعاقة حركة النضال الشعبي وكبحها، ووضع العصي في عجلاتها، حتى تتمكن من السيطرة عليها، ومن حماية قيادتها له، بدلاً من العمل على تطويرها، وتنظيمها، وتأطيرها في الاتجاهات والقضايا الأكثر إلحاحا، وعبر الوسائل الأكثر نجاعة. وهو ما حصل في جميع الانفجارات الشعبية أيام الانتداب البريطاني، وما حدث في الانتفاضتين الأولى والثانية، وما يحدث اليوم أيضا.
ويبدو ذلك جليا من خلال تخبط برنامج العمل الوطني، على مدى القضية الفلسطينية، من برنامج يقوم ويدور في فلك كسب ود الانتداب البريطاني، ويلتمس منه مناصرة الحقوق الفلسطينية، إلى برنامج ينشد الدعم الإقليمي والدولي، ولا سيما بعد إقرار البرنامج المرحلي. بينما مثل برنامج حركة التحرر الوطنية الأهداف الوطنية، في الفترة الواقعة بين سيطرة فتح على منظمة التحرير، وتبني المنظمة البرنامج المرحلي، إلا أن مجمل ممارسة القيادة وسلوكها، كان يؤشر إلى آنية هذا البرنامج، وهو ما كان يعزز المخاوف من الانقلاب عليه، منذ البدايات.
وقد تم ذلك من أجل تمكين "فتح" وغيرها من التنظيمات، من انتزاع مشروعية تمثيل الشعب والقضية الفلسطينية، حيث كشفت الأحداث اللاحقة عن هزلية، وعشوائية، وانتهازية قيادات منظمة التحرير، والفصائل الفلسطينية عموماً، بما فيها الحركات والتنظيمات الإسلامية، التي عادت إلى الواجهة بعد توقيع اتفاق السلام المشؤوم، والتي كررت تجربة فتح بشكل شبه كامل، عبر تبنيها خيار المقاومة العسكرية العشوائية، من أجل منازعتها على مشروعيتها الشعبية، كخطوة أولى في طريق السيطرة على السلطة السياسية، ومن دون أي اكتراث بالأهداف الفلسطينية وبالقضية الفلسطينية عموماً.
طبعا؛ لا يمكن تعميم الحالات السابقة على جميع التجارب التنظيمية الفلسطينية، بل لا بد من إعطاء التجارب الناصعة والنقية قدرها وقيمتها الحقيقية، مثل تجربة وديع حداد التنظيمية، التي عملت على تأسيس آلية تمويل ذاتية، لتجنب خضوع حركة التحرر لبرامج وأهداف الداعمين، كما عبّرت عن الوضوح والدقة السياسية والوطنية، بالرغم من بعض الهفوات والأخطاء، التي مثلت ذريعة للبعض من أجل تشويه هذه التجربة وهدمها، وهو ما استكمل عبر اغتياله شخصياً من قبل الاحتلال.
نستخلص مما سبق ونتيجة لمجمل الوضع الدولي والإقليمي والمحلي، الذي يشير إلى تعاظم الجهود الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية، علينا العمل بجدية كاملة، على حماية حركة المقاومة الشعبية، كي تتمكن من مواجهة جميع الألاعيب والمكائد، المحاكة لمواجهتها، ومن أجل تطويرها وتنظيمها حتى تنجح في استعادة حقوقنا المسلوبة، وبقوى النضال الشعبية الفلسطينية والعربية والعالمية، ومن دون أي تعويل على أي قوى خارجية، كما كان يحدث في الماضي القريب والبعيد.

المساهمون