خريف العمر في المهاجر... قلق مرير بين كبار السن

خريف العمر في المهاجر... قلق مرير بين كبار السن

19 فبراير 2018
يمضي العمر في الغربة على المهاجرين(العربي الجديد)
+ الخط -


لا يعيش العم "أبو عريف"، وضعا كما تمناه حين وصل إلى الدنمارك في بداية السبعينيات من القرن الماضي "وبعد 50 سنة في التنقل بين معامل وأعمال حرة، تجدني كما كنت في بداية رحلتي في الهجرة، بل أسوأ".

وصف "ابو عريف"، الذي تنقل في العمل منذ أواخر الستينيات بين الدول الأوروبية، قبل أن يتخذ قراره بالاستقرار في الدنمارك "قرب الأبناء، ولاحقاً الأحفاد"، لا يشمله وحده. فمن بين كثيرين ممن تعج بهم التجمعات السكنية فإنه "حتى السفر لقضاء إجازة في الوطن لم يعد، ومنذ سنوات طويلة، كما كان في البدايات. أنت تعيش منذ سنوات حزنا على ضياع الزمن، وكل ما حفرته لمستقبلك التقاعدي ذهب هباء في الوطن"، يقول صديق أبو عريف، العم "أبو نبيل السيد".

زمالة وصداقة عمر تجمع أبو عريف وأبو نبيل، ويبقى القاسم المشترك في حديثيهما اللقاء الأول الذي كان محور حديثه في مقتبل العمر، في العقد الثاني من عمريهما، عن "الهجرة المؤقتة للعمل 3 أو 4 سنوات وجمع ما يكفي لتأسيس عائلة ومساعدة الأهل، وثم نعود"، بحسب ما يستعيد "أبو نبيل" من الأيام الخوالي يقول "كنت أكبره بسنتين، أنا اليوم تجاوزت ثمانين حولا، وكان يستمع لي، لكن ليتني استمعت له". يبتسم العم أبو عريف شارحا:" كنت بعد 5 سنوات أقول له يكفي، علينا العودة، لكنه كان تورط بالزواج في الغربة.

كبار السن... العمر يمضي في الغربة (العربي الجديد



 








غادر الاثنان بلديهما البعيدين جغرافيا، المغرب وفلسطين، لتقرب بينهما غربتهما فيكبران كـ"أخوين" يعيشان الشوق إلى أيام خلت، والأكثر "تلك التي تعيدك إلى بلدك... وإن فقدت الكثير من الأهل"، يصف أبو عريف المهاجر من جنوب غرب المغرب إلى إسبانيا أولا، ثم منها شمالا.
في مسجد دنماركي يلتقي الصديقان صديقا ثمانينياً، آخر هو "أبو سهيل"، والمهاجر "منذ 30 سنة فقط، لكني اليوم أقول لنفسي ليت الزمن يعود بي إلى الوراء، فما كنت فعلتها... لكن أيضا لست متأكدا، فالظروف أحيانا تفرض نفسها، كما حال ملايين الناس التي تدمي القلب رحلتها في اللجوء الجماعي الحديث، فيبدو أننا نحن العرب والمسلمين مكتوب علينا أن نبتلى بالتهجير".

شكوى هذه الفئة المتقاعدة، ممن عاش سنوات إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، إلى جانب عشرات آلاف العمال من المغرب ويوغسلافيا وتركيا، ممن كبروا في الغربة، لا تثير دوما انتباه المجتمعات المستقبلة بعد أن يحال بعضهم إلى رفوف معاملات بيروقراطية ترتبط براتب التقاعد ومراجعات طبية، وأحيانا الدفع بهم إلى بؤرة العزلة. فحتى هؤلاء الذين يعيشون في تجمعات تضم مهاجرين، ولم ينتقلوا إلى مأوى كبار السن، يعيشون "تناقض الماضي والحاضر"، بوصف أبو نبيل.
واقع صعب
بعد حوالي 50 سنة تشير مؤشرات التخصص الأوروبي حول أحوال الشيخوخة والمتقاعدين إلى أن زيادة كبيرة تشهدها المجتمعات الأوروبية في "نسبة كبار السن المتقاعدين من خارج المجتمعات الغربية"، وهي إشارة إلى مجتمعات من خارج أوروبا. وفي السنة الماضية 2017، وإثر تسليط الضوء على قضايا من مثل الدمج والصحة والرخاء وما يسمى "المجتمعات الموازية" باتت، ولو بخجل، تطل برأسها قضايا "الفقر الذي يعيشه متقاعدون من مهاجري الدول غير الغربية".

ففي السويد والدنمارك وألمانيا، وهو ما ينطبق أيضا على بلدان ذات كثافة مهاجرة في فرنسا وبلجيكا وغيرها، يبدو أن "الفقر الاقتصادي" الذي يعيشه من وصل إلى سن الشيخوخة يختلف عن أترابهم الغربيين. وبالرغم من الاستثناءات فإن النسبة العظمى من ذلك الجيل تعيش واقعا مختلفا عن المتقاعدين الغربيين. فعند الأخيرين، في قياس مؤشرات فقر الشيخوخة، هي بالكاد موجودة بعد سنوات طويلة في سوق العمل.

مع انضمام الآلاف، من مهاجرين قديمين وحديثين، أي من نحو 30 إلى 40 سنة خلت، إلى لوائح المتقاعدين، بوصول هؤلاء إلى فوق الـ60 سنة، في مختلف دول أوروبا، تبرز حالتهم في دراسات متخصصة، أكثر مما هي مثيرة مجتمعياً. فالشكوى من الأمراض والفقر ليست اختراع هؤلاء الذين تحدثوا إلى "العربي الجديد" عن واقعهم وماضيهم. واقع الحال يقول إن البعض محظوظ لأنه كان في سوق العمل لسنوات طويلة بحيث استطاع القيام بادخار تقاعدي، فيما الأغلبية الساحقة تقلب زمن السبعينيات والثمانينيات بهم فلم يصبح العمل منتظما كما في السابق.

"التمييز" يطاول حتى رواتب متقاعد مثل سبعيني دنماركي، ينس كريستوفر، وأبو سهيل، المعتاشين على راتب "التقاعد الشعبي" يقول المتخصص في منظمة "قضايا كبار السن" جوني سورنسن لـ"العربي الجديد": "قانون رواتب التقاعد الشعبي قائم على احتساب أن من يتلقَّ كامل المبلغ يجب أن يكون قد مر على حياته في الدنمارك 40 سنة قبل أن يحتسب كاملا(أي أن يكون قد عاش في البلد منذ سن الخامسة عشرة) ". بهذا الشرح القانوني يمضي سورنسن "لكن أيضا هناك مشكلة أخرى، فرغم مرور أكثر من 40 سنة فإن سنوات العمل أيضا تلعب دورا مرتبطا بالادخار التقاعدي، فمن يكن في سوق العمل لسنوات طويلة ومتواصلة يكن استقطاع التقاعد أكبر لسنوات الشيخوخة، هذا إذا واظب المرء عليه، ونسبة كبيرة من المهاجرين تخرج من العمل في سن 55 سنة".

يعترف بعض من كبار السن العرب الذين تحدثت "العربي الجديد" إليهم بأن "الوقت مر وأنت لا تفكر سوى بتحسين واقعك وواقع أهلك وللأسف بإهمال جزئية ما تعيشه حين تصبح عجوزا"، كما يقول العم أبو نبيل.

ويبقى أيضا لرحلة "التأرجح بين تأسيس حياة في البلد عند الأهل وبين بلد الهجرة تأثيرها الكبير، فينتهي الحال بأن تبقى معلقا بين واقعين، فلا أنت قادر على إقناع الأبناء للمغادرة والعيش في الوطن الأم ولا تمشية وضعك الصحي والمعيشي في الكبر في الوطن الأصلي"، يعترف أبو نبيل حول سني "العمر التي سارت وخرجت بها بشقة لم يعد يزورها أحد، بل ربما لن يكون بامكاني توريثها للأبناء الذين كبروا هنا".

ليست مسألة راتب الشيخوخة هي المعضلة الوحيدة التي يعيشها كبار السن، لاجئين ومهاجرين. فسرعة الحياة، وانشغالات الأبناء والأحفاد، وغياب ذات الإمكانيات المرتبطة بالمال، للسفر وقضاء الإجازات كما يفعل الغربيون، تجبر كثيرا من هؤلاء، الذين ليس لديهم أصدقاء بنفس العمر، إلى قضاء أوقات من العزلة والوحدة. ويتأسف بعض من وصل إلى سن الشيخوخة ممن تحدث إليهم " العربي الجديد إليهم ".

بالتأكيد ليس القادمون من بلاد المغرب والمشرق العربيين وحدهم من يعانون آثار زمن الغربة عليهم في مرحلة الشيخوخة. اليوم يوجد عشرات، بل مئات الآلاف من مهاجري زمن العمالة لسد حاجات سوق أوروبا، ومنهم نحو ألمانيا ودول اسكندنافيا، من تركيا وباكستان ويوغسلافيا في بدايات الستينيات والسبعينيات. فيما أكثرية العرب جاءت في ذلك الوقت من دول مغاربية والبعض من "بلاد الشام" ومصر. انضم أيضا إلى هذه الفئة آلاف اللاجئين من لبنان وسورية، لبنانيين وفلسطينيين، وعراقييين لاحقا، من مختلف المناطق.