أمهاتهم شيء ونحن شيء آخر.. "العظماء"

أمهاتهم شيء ونحن شيء آخر.. "العظماء"

04 مارس 2017
تبقى رعاية الأم وحنانها أساس التربية السليمة (Gettty)
+ الخط -
من تجربتي مع أبنائي وحكايات الأمهات على مختلف أعمارهن وجنسياتهن ومستوياتهن التعليمية والاجتماعية، فإن أهدافنا كأمهات ونحن في رحلة الحياة والتربية مع أولادنا تكاد تكون واحدة، وتتلخص في أن يكونوا مهذبين، متفوقين، أسوياء نفسيا وصحيا، في مكانة اجتماعية مرموقة، صالحين، وأخيرا أن يتذكرونا.  

وعلى الرغم من أن هذه الأهداف تبدو سهلة يسيرة، إلا أن الصعوبة تكمن في التفاصيل المتشابكة التي تكون على شكل الفروق الفردية في الشخصية ودرجة الذكاء والاستيعاب وميول الأبناء، وقد تكون في وعورة طريق التربية نفسه من صعوبات مادية وانفصال أسري بسبب سفر أو طلاق أو موت، إلا أنه في النهاية قد تجد الأم نفسها وسط أطفال في ظروف بالغة الصعوبة ومطلوب منها تحقيق النجاح لهم.

 التجارب المماثلة قد تكون بمثابة وصفة للإرشاد والعون والمدد، في السطور القادمة نعرض لتجارب أمهات لرجال سطروا اسمهم في التاريخ الإنساني، وكانت حياة أمهاتهم غاية في السوء والصعوبة علنا نأخذ منهن بعض الخطوط العريضة لتكون لنا عونا في طريق التربية.

 

 

هناك شيء يمكن تقديمه دائما

إذا كنت عزيزتي الأم تعيشين في ظروف معيشية صعبة من فقدان زوج أو في شظف من العيش، وترين نفسك الأكثر بؤسا في هذا العالم، فأود أن أمنحك أملا بأنك من المؤكد أقل بؤسا من السيدة هانا شابلن التي انفصلت عن زوجها وفقدت عملها، ووصل بها البؤس إلى أن اضطرت هي وولداها العيش فترة في ملجأ لتأمين المأكل والمشرب. إنها والدة الممثل البريطاني العالمي 

شارلي شابلن الذي يصف في مذكراته مدى درجة البؤس التي كانت عليه والدته قائلا: "عندما تعالج الأقدار مصائر البشر، فإنها لا تراعي العدل، ولا الرحمة فقد كان كذلك سلوكها مع أمي، وكما ينتهي الخريف إلى الشتاء، كذلك كانت ظروفنا تنتهي من سيئ لأسوأ، وسرعان ما تبخر مالها كما تبخرت مجوهراتها ومقتنياتها القليلة الأخرى التي رهنتها لتعيش".

 

هذه الظروف السيئة والصعبة لم تخل من تقديم الحب والرعاية والقيم التربوية من قبل الأم لأولادها، يقول شابلن في ذلك: "لقد أضاءت لي أمي في تلك الحجرة من البدروم في شارع اوكلي ذلك النور الذي لم يعرف عالمنا أبدا ما هو أرق منه، والذي غذى الأدب والمسرح بأعظم وأخصب مواضيعهما: الحب والعطف والإنسانية، وإذا كنا نعيش في الطبقة الدنيا فقد كان سهلا أن نعتاد عدم الاكتراث باللغة التي نستخدمها، ولكن أمي كانت تقف دائما خارج بيتها وتراقب الطريقة التي نتكلم بها بأذن واعية، لتصحح أخطاءنا النحوية، وتشعرنا بأننا مختلفون عن غيرنا، إن الطيبة والحنان كانا أبر فضائلها. لم يكن في طبيعتها ذرة من الفظاظة. وما من تعبير لاذع جرى على لسانها إلا وكان بليغا في ملائمته لمقتضى الحال، وبالرغم من حياة الفقر والانحطاط التي أرغمتني على أن نحياها، إلا أنها حمتنا أنا وأخي من الشارع وجعلتنا نشعر بأننا لسنا نتاجا عاديا للفقر، بل أشخاصا متفردين وممتازين".

 

اغرسوا واجتهدوا وثقوا في غرسكم

لا أنسى أبدا مشهدا في ذاكرتي، ونحن في زيارة لأسرة من أقاربنا وكانت أسرة معروف عنها الصلاح والعلم لتهنئتهم بنجاح ابنهم في كلية الطب، وفوجئنا بخوف الأب والأم غير المصطنع من أن ابنهم سيكون طبيبا بلا ضمير. ربما لم أفهم ذلك الشعور إلا بعد أن أصبحت أما، فالكثير منا يراوده القلق والخوف مع دخول ابنه أو ابنته مرحلة المراهقة، ومع زيادة تأثير المحيط

الخارجي على الأبناء، ورفع يد سيطرة الأسرة نوعا ما عن الأبناء يزداد الخوف على الأبناء من كل مظاهر الضعف البشري والاستسلام للغوايات بمختلف أشكالها. ولكن كيف نبني هذا "الضمير


يحضرني هنا ما كتبه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في كتابه "أحلام من أبي" الذي تناول فيه سيرته الذاتية ليهون من هذه المخاوف، يقول أوباما عن فترة طفولته في إندونيسيا: "مع عدم توفر النقود المناسبة كي ألتحق بالمدرسة الدولية، فقد رتبت أمي منذ لحظة وصولنا كي تضيف إلى تعليمي في المدارس الإندونيسية منهجا دراسيا أميركيا أدرسه بالمراسلة. وفي ذلك الوقت تضاعفت جهودها، فطوال خمسة أيام في الأسبوع كانت تدخل إلى غرفتي في الرابعة صباحا، وتعطيني دروسا في اللغة الإنكليزية لمدة ثلاث ساعات قبل أن أذهب إلى المدرسة وتذهب هي إلى عملها. وقد قاومت هذا النظام بشدة، وكانت أمي تكرر على مسامعي بصبر أقوى وسيلة دفاعية لديها: "هذا الأمر ليس نزهة لي أنا أيضا أيها الصبي".

ويحكي أوباما عن فترة مراهقته وإدمانه للماريجوانا والكوكايين كيف أن قيم والدته جعلته يتجاوز هذه المرحلة ويقول "مدمن للمخدرات ومدخن للماريجوانا، هذا ما كنت أتجه إليه" إلا أن روح أمي على نحو غير مرئي أرشدتني إلى المسار الذي سلكته، كان لديها إيمان بالعدالة والعقلانية، وقد قالت لي ذات مرة إن الشعور بالذنب هو الأساس الذي بنيت عليه الحضارة".


نستطيع القول إن الجهد ثم الجهد والصداقة ومجموعة القيم المتينة الحاكمة من قبل الأم لأبنائها في الصغر تكون بمثابة سفينة تعبر بهم لبر الأمان أمام نزواتهم وسقطاتهم.

 

رفقا بذكريات أبنائنا

وأخيرا ونحن في طريق التربية يجب أن نوازن دائما بين الانضباط واللين، وألا نسقط في الفظاظة، وهنا نود أن نعرض لمثال رغم قسوته إلا أنه كاشف دال، كان والد الكاتب الأيرلندي جورج برنارد شو سكيرا فاشلا، ولكن برنارد شو كان يحبه ويذكره بالحنان والتقدير، أما أمه فكانت تحتقر زوجها لإدمانه على الشراب، وكان شو يجد توبيخا دائما منها لأنه لا يعمل ولا يكسب وكانت معارضة لاحترافه الأدب وكان يكرهها ولا يذكرها بكلمة طيبة في جميع ما كتب، بل إنه عندما ماتت كان يضحك في جنازتها.

 

المساهمون