ماذا بعد قضية القدس؟

ماذا بعد قضية القدس؟

24 ديسمبر 2017
تحتاج الحركة الجماهيرية مقومات العمل المشترك(عبد الحكيم أبو رياش)
+ الخط -
لقد شهد العالم العربي بشقيه الرسمي والشعبي حالة إجماع مؤقتة ونادرة الحدوث رداً على التسريبات الإعلامية التي سبقت الإعلان الرسمي الأميركي المتعلق بمدينة القدس، عبر اعتبار كل من الأوساط الشعبية والرسمية أن إقدام الإدارة الأميركية على الاعتراف بمدينة القدس كعاصمة لدولة الاحتلال يمثل نهاية العملية السلمية ونهاية حل الدولتين. وهو الموقف ذاته الذي أعلنته الجموع الشعبية العربية والفلسطينية ما بعد الإعلان الأميركي الرسمي، على العكس من النظام الرسمي العربي الذي حول موقفه ورده على الخطوة الأميركية من اعتبارها نهاية للعملية السلمية إلى اعتبارها نهاية لاعتبار الولايات المتحدة الأميركية وسيطا نزيها للمسار السلمي، ما يعني استمرار رغبة وقناعة وتمسك النظام الرسمي العربي بالعملية السلمية.
وهو ما يتطلب منا البحث في معنى الرد العربي على قرار القدس بشقيه الرسمي والشعبي، ولتكن البداية بالموقف الرسمي العربي الذي شهد تحولاً بسيطاً لغوياً وجذرياً سياسياً ما قبل الإعلان الأميركي وما بعده. فمن الواضح للجميع أن المغزى من تغيير رد الفعل الرسمي العربي هو غياب أي نية أو مصلحة رسمية لإنهاء المسار الاستسلامي أو المسار السلمي كما يحلو للنظام العربي تسميته، في حين يمثل تلويح النظام العربي بإنهاء العملية السلمية ما قبل الإعلان الأميركي رسمياً محاولة لامتصاص الغضب الشعبي وتفادي مجابهته مباشرة. لتعكس مناورة النظام العربي حجم تداخل وارتباط مصالح القيادات العربية مع الولايات المتحدة ومع قوى الاحتلال دون أي اعتبار لمصالح الشعوب، كما تعكس حجم استهتار هذا النظام بالموقف والمصالح الشعبية التي يؤكد القرار الأميركي الأخير على سحقها وسرقتها علناً دون أي مقاومة أو ممانعة رسمية ولو شكلية، كيف لا ونحن نشهد مقدار هوان واستسلام وخنوع النظام العربي، كما نشهد حجم استهتاره بعقل الشعب العربي لدرجة إقدام الأنظمة على تبني رد ساذج وسطحي وفاقد لأي أفق عملي دون أي اعتبار أو احترام للموقف والرأي الشعبي. فهل هناك أي فلسطيني أو عربي يمكن أن يقتنع بقدرة النظام العربي على فرض الوسيط النزيه الذي يختاره أو الذي يرضاه للمضي قدماً بالعملية السلمية، بمعنى هل تحتفظ القيادات الفلسطينية والعربية عموماً بأي ورقة قوة تمكنها من فرض الوسيط الدولي الذي تريد، ومن ثم هل هناك وسيط دولي نزيه وعادل تجاه قضايانا العربية والفلسطينية، وقادر في الوقت ذاته على إجبار قوى الاحتلال على إعادة جميع الحقوق العربية والفلسطينية المستلبة، وبغض النظر عن المرجعية المتبعة لتحديد حدود وحجم الحقوق المغتصبة أكانت القانون الدولي المجحف بحقوقنا أم كانت مرجعية تاريخية وإنسانية. وبذلك يكون النظام العربي قد أعاد التأكيد مجدداً على استهتاره بحقوقنا وعزمه على الالتفاف حول غضب الجماهير وعلى مطالبها وحقوقها إجمالاً لصالح الاستمرار في طريق مصالحه الفئوية المتشابكة مع قوى الغرب المتقدم وقوى الاحتلال الغاصبة، وهو ما قد يعني حدوث التفاف جديد على الموقف الأخير من القرار الأميركي لنشهد في الأيام القادمة عودة مياه العلاقات الثنائية إلى مجراها الطبيعي وكأن شيئا لم يحدث.
بينما وعلى الطرف الآخر - أي على الطرف الشعبي - نجد ثباتا ووضوحا في ردة الفعل منذ بداية مسار الاستسلام والتطبيع وحتى اليوم، أي منذ ما قبل وجود أي بوادر إعلامية أو سياسية عن أزمة القدس الأخيرة، وهو ما يعكس وحدة موقف وإرادة ومصالح الشعب العربي قاطبة في أي مكان يتواجد فيه، والتي تشكل مصدر القوة الحقيقية لبناء مسار ثوري جذري بديل عن مسار الخنوع السائد رسميا اليوم، إن استطاعت الحركة الجماهرية التغلب على بعض المشاكل والصعاب التي كبلتها وحاصرتها تاريخياً، كالحذر من الوقوع في فخ الأنظمة التي تتحايل على الشعب ومصالحه عبر بعض المناورات السياسية وبعض المواقف الآنية والسريعة بهدف سحب زمام المبادرة من الحركة الشعبية، أو عبر تبادل الأدوار داخل ذات المنظومة الفاسدة والمتهاونة بحقوقنا، من خلال إحداث تغييرات محدودة تنحي بعض الشخصيات والأفراد الذين ذاع سيط خنوعهم عموما وتستبدلهم بشخصيات من ذات المنظومة الفاسدة والخانعة لكنهم أبعد عن التداول الإعلامي، أو عبر تلاعب بعض القوى والأنظمة بشعارات وطنية تلامس هموم وأهداف الشارع العربي تستخدم لإخفاء تآمر هذه المجموعات على حركة التحرر العربية وعلى الشعوب العربية إجمالاً، لتتحول الشعارات الوطنية إلى ستر يحجب عنا فسادهم وخضوعهم للاحتلال أو حمايتهم لحدوده وأمنه على امتداد السنوات الماضية، كما تحجب عنا إجرامهم بحق الشعب وبحق حركة التحرر.
كما تحتاج الحركة الجماهيرية لاكتساب مقومات العمل المشترك والجاد والواعي طويل الأمد، الذي يعني الانتقال من رد الفعل إلى الفعل الحقيقي، هذا الفعل المبني على تحديد الأهداف الآنية والمستقبلية وتحديد الأولويات النضالية، والمبني كذلك على تحديد الوسائل النضالية الأمثل وفقاً للمكان والزمان والهدف المباشر في حينه، كما يفترض بها التحلي بالنفس النضالي الطويل الهادف لاستكمال عملية التغيير الثوري، بدلاً من الاكتفاء ببعض المكاسب الهامشية والسريعة التي يكتشف الشعب العربي خسارته لها مباشرة بعد انتهاء موجة الغضب. وأخيراً لا بد من العودة إلى خيار العمل الشعبي المشترك على طول الوطن العربي استناداً لوحدة الهدف والغايات الشعبية، ورداً على الوحدة الأمنية والقمعية الرسمية العربية التي ضربت وتضرب أي محاولة فلسطينية أو عربية شعبية لاستنهاض روح النضال والمقاومة وعزيمة الشعوب على استعادة جميع حقوقها المسلوبة وبغض النظر عن الفاعل.
وبذلك تكون الحركة الجماهيرية قد خطت أولى خطواتها على طريق إفشال مشروع التسوية والاستسلام والتطبيع، كما تكون قد وضعت أولى لبنات بناء مشروع النضال والعدالة والرفاه والتطور والتحرر، استناداً للزخم والطاقة والدافع الذي يتولد من وضوح وثبات الموقف الوطني، وانطلاقاً من تسلحها بوحدة وتكامل النضال الشعبي، لكنها لا تكون قد أنهت جميع الخطوات والإجراءات الضرورية لاستكمال هذه المهمة الطويلة والشاقة، وهو ما يتطلب تواصل وتشابك العمل الميداني والفكري والنظري جنباً إلى جنب حتى تحقيق جميع الأهداف الشعبية وحمايتها من غدر القوى المتربصة بها، المحلية منها والعالمية.